المصطفى الجوي – موطني نيوز
في أعماق سيبيريا القاسية، وتحديداً في قرية بوكروفسكوي النائية، بدأت قصة واحدة من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ الروسي. ففي تلك البقعة المنعزلة من العالم، حيث تمتد الغابات الكثيفة إلى ما لا نهاية، وُلد غريغوري يفيموفيتش راسبوتين في عائلة فلاحية بسيطة.
النشأة والطفولة المأساوية
كانت طفولة راسبوتين محاطة بظلال المأساة. فمن بين سبعة أطفال في عائلته، كان هو الوحيد الذي نجا وبلغ سن الرشد. وكان هذا المصير القاسي شائعاً في سيبيريا آنذاك، حيث دفعت قسوة الظروف المعيشية العائلات إلى إنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال، على أمل أن ينجو بعضهم من براثن الموت المبكر.
عاش راسبوتين في شبابه حياة فلاحية عادية، متزوجاً ومنجباً لأطفاله، يكد في الأرض كما يفعل أهل قريته. لكن هذه الحياة البسيطة كان مقدراً لها أن تنقلب رأساً على عقب في عام 1897، عندما قرر القيام برحلة حج ستغير مسار حياته إلى الأبد.
التحول الروحاني والانضمام إلى الطائفة
خلال رحلة الحج، تعرف راسبوتين على طائفة “خاليستس” المحظورة، وهي جماعة منشقة عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. كان لهذا اللقاء أثر عميق في نفسه، إذ وجد في تعاليمهم الغريبة ما يتوافق مع ميوله الروحانية. وبعد عودته إلى قريته، بدأ في تأسيس جماعته الخاصة، معلناً نفسه “رجلاً مقدساً” يمتلك قدرات خارقة للطبيعة.
شهد المقربون منه تغيراً جذرياً في شخصيته بعد عودته من خلوته في غابات سيبيريا. وبدأت القصص تتناقل عن رؤيته للشيطان، وعن صراخه في الشوارع عند مشاهدة أشكال غير مرئية للآخرين. حتى أن قساً يُدعى إيليادور حاول اغتياله، معتقداً أنه الشيطان المتجسد.
الوصول إلى البلاط القيصري
شكلت ثورة 1905 نقطة تحول في حياة راسبوتين، إذ تم تقديمه إلى العائلة القيصرية. وسرعان ما اكتسب ثقة القيصر نيقولا الثاني وزوجته ألكسندرا، خاصة بعد نجاحه في مساعدة ابنهما المريض أليكسي عام 1907. ويُرجح أن هذا النجاح كان يعتمد على مهارات التنويم المغناطيسي التي اكتسبها من طائفته، وهي ممارسة كانت شائعة بين الكهنة الأرثوذكس آنذاك.
النفوذ السياسي والمراقبة الاستخباراتية
رغم عدم تقلده أي منصب رسمي في البلاط أو النظام السياسي، إلا أن راسبوتين تمتع بنفوذ هائل. فقد جمع بين أدوار العراف والمعالج والمستشار للعائلة القيصرية. وكشفت وثائق سرية تم رفع السرية عنها في عهد بوريس يلتسين عن حجم القلق الذي أثاره وجوده في البلاط، حيث خصصت أجهزة المخابرات 239 وثيقة لمراقبة تحركاته بين عامي 1914 و1916.
المؤامرات الدولية والشكوك حول ولائه
مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الأولى، تصاعدت الشكوك حول ولاء راسبوتين. فقد انتشرت شائعات تربطه وألكسندرا فيدوروفنا بمجموعة موالية لألمانيا تسعى لعقد سلام منفصل مع القوى المركزية. وأثار هذا قلق جهاز الاستخبارات البريطاني (MI6)، الذي اعتبره “أحد أقوى القوى المؤيدة للألمان في روسيا”.
النهاية الغامضة والاغتيال
في التاسع والعشرين من ديسمبر 1916، وصلت قصة راسبوتين إلى نهايتها المأساوية. وفقاً لاعترافات الأمير فيليكس يوسوبوف، تم استدراج راسبوتين إلى منزله حيث دُس له السم في الطعام. لكن تشريح الجثة الذي أجراه البروفيسور كوسوروتوف كشف عن حقائق مختلفة: لم يُعثر على آثار للسم، بل وُجدت آثار ضرب عنيف وطلقات من ثلاثة أسلحة مختلفة، أحدها كان مسدس ويبلي البريطاني.
وكشفت الأبحاث التاريخية اللاحقة عن تورط ضابط الاستخبارات البريطاني أوزوالد راينر في الاغتيال، حيث يُعتقد أنه أطلق الرصاصة القاتلة من مسدسه الويبلي. وهكذا انتهت حياة الراهب الغامض الذي هز عرش القياصرة وأثار جدلاً لم ينته حتى بعد مماته.
تأثيره على المجتمع الروسي
ترك راسبوتين إرثاً معقداً في التاريخ الروسي. فقد ألف كتاباً بعنوان “حجتي إلى القدس” أهداه للقيصر نيقولا الثاني عام 1915، وطُبع منه خمسون نسخة فقط. ووصفه سكرتيره آرون سيمانوفيتش في كتابه “راسبوتين واليهود” بأنه “فلاح تسلل إلى العائلة المالكة، وعيَّن وعزل الوزراء والأساقفة والجنرالات، وكان لمدة عقد كامل بطلاً لسجلات فضيحة بطرسبورغ.”
التأثير على السياسة الروسية
لعل أخطر تأثيرات راسبوتين كانت على السياسة الروسية الداخلية والخارجية. فقد حذر ميخائيل رودزيانكو، رئيس مجلس الدوما، القيصر قائلاً: “لا يمكن أن يستمر هذا الوضع. إن وجود هذا الرجل في بلاطكم يقوض الثقة في السلطة العليا وقد يؤثر سلباً على مصير الأسرة الحاكمة ويصرف قلوب الناس عن إمبراطورهم.”
الأبعاد الدولية لقضية راسبوتين
كان لقضية راسبوتين أبعاد دولية معقدة. فقد التقى به برنارد باريس بويتي عدة مرات قبل الحرب العالمية الأولى، وكشف عن رؤية الكونت ويت بضرورة تجنب روسيا للحرب وإقامة تحالف اقتصادي مع فرنسا وألمانيا لمواجهة النفوذ البريطاني. وهو ما دفع الاستخبارات البريطانية للتحرك ضده، حيث أفاد صامويل هوار في ديسمبر 1916 بأن “روسيا لن تقاتل أبداً حتى نهاية شتاء آخر” ما لم يتم إبعاد راسبوتين.
التحقيقات في مقتله
أثارت ظروف مقتل راسبوتين شكوك المؤرخين. فقد كشف تشريح جثته عن تناقضات عديدة مع الرواية الرسمية التي قدمها فيليكس يوسوبوف والدكتور ستانيسلاوس دي لازوفرت وفلاديمير بوريشكيفيتش. وأشارت الأدلة إلى تورط الاستخبارات البريطانية في العملية، خاصة مع اكتشاف أن إحدى الطلقات القاتلة جاءت من مسدس ويبلي، وهو السلاح المعياري لعملاء MI6.
يظل راسبوتين شخصية محيرة في التاريخ الروسي، جمعت بين التناقضات: الفلاح البسيط والمستشار النافذ، الراهب المتصوف والمتلاعب السياسي، المعالج المزعوم والعميل المشتبه به. وتبقى قصته شاهداً على فترة مضطربة من تاريخ روسيا، حيث تشابكت المصالح الشخصية مع السياسة الدولية، وامتزجت الخرافة بالحقيقة، في مشهد درامي انتهى بسقوط الإمبراطورية الروسية.