مصطفي نصر زهران – موطني نيوز
طمعت أوروبا الصليبية بإفريقيا وأقبلوا عليها من كل حدب وصوب لاقتسامها في القرن التاسع عشر الميلادي, فاحتلت فرنسا الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا, واحتلت إنجلترا مصر, ولم يكتفوا بهذا بل زحفوا إلى قلب القارة السوداء فاقتسموها بينهم, فكانت منطقة النيجر الكبرى من نصيب الفرنسيين, لكنهم لم يستولوا عليها إلا بعد مقاومة عنيفة شديدة من ساموري توري هذا الإمام الكبير, والمجاهد العظيم.
ففي عام 1870م كوّن الإمام مملكة إسلامية صغيرة في منطقة أعالي النيجر بعد انهيار الممالك الإسلامية الكبرى مالي وصنغي, فقد بدأ بتجميع الشباب حوله, وكوّن نواة دولة وسعها من بلاد الوثنيين حتى وصل إلى حافة فوتا جولون غربًا, وبوري شمالاً, وقد حطم الوثنيين في الشمال في كونيا العليا, وقد عمل على تسليح جيشه بأسلحة أوروبية حديثة كان يشتريها من البريطانيين وغيرهم من تجار السلاح.
وبعدما وصل هذا الجيش إلى ذروة استعداده بدأ الإمام بالإغارة على القرى والمراكز التابعة للفرنسيين, وأرسل الإمام إلى سلطان التكرور يطلب منه التحالف معه ضد هذا العدو الأوروبي لكنه فشل في ذلك, كان عام 1882 بداية الصراع العنيفة بينه وبين الفرنسيين, فقد كان الإمام قد انتهى من توحيد الشطر الجنوبي من مناطق السافانا على طول غابات غرب إفريقيا الكبرى فيما بين المناطق الشمالية من سيراليون حتى ساحل العاج بحيث أصبحت هذه المنطقة إمبراطورية واحدة لا ينازعه فيها منازع.
وفي هذا العام قررت فرنسا حاسم الصراع مع الإمام, فقد وضعت أمام عينها مملكة الإمام ساموري توري, وأخذت تنسق بشكل أكبر مع الحاكم المسلم الخائن لمنطقة كندوجو السلطان تيبا ليحرك قواته إذا حركت هي قواتها حتى تضعف من مقاومة الإمام ورجاله, تحركت الجيوش الفرنسية نحو مدينة كينيزان التي كانت مركزًا تِجَارِيًّا هَامًّا للإمام, وقد أخطرت القيادة الفرنسية الإمام بالانسحاب, فرفض الإمام هذا الأمر وعقد العزم على المواجهة الكبرى بينه وبين الفرنسيين.
وعلي الرغم من أن الفرنسيين كتب لهم التفوق إلا أنهم وجدوا أنفسهم بين الخراب والعزلة لأن الإمام أمر السكان بترك المناطق التي يقترب منها الفرنسيون مع أخذ كل المؤن والمواد الغذائية وتدمير القرى, ثم انسحب من أمام الفرنسيين وواصل تقدمه شرقًا بعيدًا عن توغل الفرنسيين داخل إمبراطورتيه, فاحتلت فرنسا الجزء الغربي من إمبراطورتيه حتى وصلت إلى حدود سيراليون, واضطر ساموري إلى توقيع معاهدة مع فرنسا اعترف فيها بملكية الفرنسيين للضفة اليسرى من النيجر.
بعد المعاهدة توجه الإمام إلى عدوه تيبا ليقضي عليه وحصاره ستة أشهر في عاصمته سيكاسو لكنه أخفق في فتحها, ولجأ الفرنسيون إلى الحيلة ليخففوا عن حليفهم تيبا الحصار ففك الإمام حصاره عن العاصمة وعاد إلى بلاده, لكنه تحمل خسائر كبيرة فقد قتل سبعة آلاف من جنده, واثنين من أشهر قواده.
وفي عام 1307 هجرية = 1889م تولى قيادة الجيش الفرنسي قائد شديد العداوة للإسلام يدعى الكولونيل أرشينار, وقد حاول هذا القائد أن يستميل الإمام بالمناصب والأموال, وطلب منه الدخول تحت التاج الفرنسي, لكن الإمام رد على رسالته باحتقار, وقال: إنه لا يعمل عند أحد إلا الله, هنا دارت المعارك الطاحنة بين الإمام والقائد الفرنسي الجديد للمنطقة الكولونيل الفرنسي أرشينار, واستطاع الإمام أن يلحق به عدة هزائم وخسرت فرنسا عدة مناطق لصالح الإمام.
بعد هذه الهزائم للفرنسيين غيرت الحكومة الفرنسية القائد أرشينار, وأتت بقائد آخر اسمه الجنرال يونييه, بغية تحقيق نصر حاسم سريع على الإمام بعد أن طالت مدة مقاومة الإمام, أرسل القائد الجديد حملة كبرى بقيادة أحد رجاله المغاوير وهو القائد الصليبي الكولونيل مونتي, لكن هذه الحملة فشلت بعد أن منيت بهزيمة ساحقة وقتل مونتي نفسه على يد الإمام, وأسر معظم الجيش الفرنسي, فأرسلت فرنسا حملة أخرى فهزمت كما هزمت سابقتها, بعد هذه الهزائم الكبرى جنحت فرنسا للسلم.
وأرسلت فرنسا حاكم السنغال الفرنسي ليعقد معاهدة مع الإمام الذي قبلها لحاجته إلى الراحة والإعداد وللتفرغ لنشر الإسلام بين القبائل الوثنية, لكن الفرنسيين لجئوا إلى الحيلة والخداع في هذه المعاهدة, فقد تمكنوا على إثرها من تعقب الإمام ورجاله ودارت بينهم معركة كبرى في شهر يوليو سنة 1898م, استطاع الإمام فيها أن يقهر القائد الفرنسي لأرتيج.
لكن بعد المعركة وفرار الجيش الفرنسي, أخطأ الإمام خَطَأ قاتلاً فادحًا كلف الإمام حياته وضياع دولته, فقد تحرك بجيشه غربًا فدخل الغابات الاستوائية, وجبال الدان في فصل الأمطار, فأصابت جنده المجاعة وتشتتوا فلم يجتمعوا بعد هذا, وأراد الإمام أن يعود إلى مدينة ساننكورو, لكن الفرنسيين رفضوا إلا أن يأتيهم بأبنائه رهينة ويسلم أسلحته, فعظم عليه الأمر وقرر الصمود حتى النهاية وواصل القتال حتى وقع أسيرًا, ونفى إلى جزيرة أوجويه سنة 1317 هجرية = 1898م, وفي أحد أيام سنة 1900م وهو يصلي صلاة العشاء باغته أحد عملاء الفرنسيين وقطع رأسه.
وهكذا انتهت حركة مقاومة إسلامية في إفريقيا السمراء استمرت نحو عشرين عامًا ضد القوى الصليبية, وأصبح الإمام ساموري توري هو البطل القومي لغرب إفريقيا, وبموت هذا البطل الأسطوري انتهت واحدة من أروع الملاحم الجهادية في إفريقيا, ولقد أطلق عليه أحد أبرز القادة الفرنسيين الجنرال بيروز لقب نابليون السودان, ولكن كان الإمام العظيم رحمه الله فوق هذا اللقب بكثير, فقد دوخ الفرنسيين بجهاده عظيم عشرين عامًا.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} صدق الله العظيم.