رُوُحٌ مِنَ الجَنَّةِ (قصة قصيرة)

الكاتبة المصرية فيفيان سمير

بقلم فيفيان سمير – موطني نيوز 

  وقفتْ بغرفةِ العنايةِ الفائقةِ، لتلقِىَ نظرةً عليه، مسجىً علىَ سريرِ المرضِ. جسدُه النحيلُ مغطىً، بوصلاتِ الأجهزةِ الكثيرةِ، التِي تضخُّ الحياةَ لقلبهِ، المهددِ بالتوقفِ في أيةِ لحظةٍ. غائبٌ عنِ الوَعيِ مُنذُ أيامٍ، ولدهشتِهَا مرتْ كئيبةً ومظلمةً عليها، بلْ قاسيةً مليئةً بالخوفِ، حدَّ الرعبِ والهلعِ، لمجردِ فكرةِ احتمالِ فقدِهِ، رغمَ أنَّها تمنَّتْ كثيرًا الخلاصَ منْ حملِهِ الثقيلِ، الذِي رفضته من البدايةِ، إلىَ حدِّ إنكار حقهِ في الحياةِ، وتنوءُ به منذُ رحيلِ زوجِهَا، الذِي حملهُ عنْهَا لسنواتٍ طوالٍ دونَ كللٍ، لكنَّها وجدتْ نفسَهَا وحيدةً، في مواجهتِهِ مضطرةً، بعد أن غابَ الزوج والأبُ فجأةً.  

انتظرتْ يومَ ولادتِهَا بفارغِ الصبرِ. ظلتْ تحلمُ باللحظةِ، التِي تحملُ فيهَا ابنهَا بينَ يديها، وسعادتُها تدثرُها منذ علمتْ أنَّه ولدٌ. أعدتْ غرفةً جميلةً لاستقبالهِ، امتلأتْ بالضحكاتِ واللمساتِ المبهجةِ، أثناءَ أعدادِها بيديهَا هيَ وزوجُها. ورغمَ ضيقِ الحالِ، فإنَّها جالتْ الأسواقَ والعديدَ من المحالِ، لشراءِ كلِّ ما هوَ جميلٌ، ومميزٌ لصغيرِهَا “أولُ فرحتِهَا”. ظلتْ تستعجلُ الأيَّامَ، وتحثُّ الساعاتِ ليقتربَ يومُ لقائِهَا بطفلِها، الذي سيغيرُ حياتَهَا، ويمنحُهَا أغلى لقبٍ “أم”. لكنَّ القدرَ كانَ له رأىٌ آخر، نعمْ تغيَّرتْ حياتُها، وتبدلتْ أحلامُها، إلى كابوسٍ، لا تستطيعُ الاستيقاظَ منهُ.  

  يومُ الولادةِ، كان قلبُها يخفقُ بشدة في شوقٍ ولهفةٍ، وحين احتضنَتْ ذلكَ الكائنَ الصغيرَ دقيقَ الملامحِ، واستكان بحضنِهَا وهَدَأ صراخُه، كأنما احتضنَتْ العالمَ بأسرهِ. ظلتْ تتأمله وتتحسسه وتشمُّ رائحتَه، غيرَ مصدقةٍ أن بين يديها قطعةً منْ قلبِهَا. تضمُّهُ لصدرِها، وترفضُ أن يحملهُ عنها أحدٌ لتستريحَ قليلا، إلي أنْ دخلَ طبيبُ الأطفالِ لفحصِ الطفلِ، وهنا تغير كلُ شيءٍ، معَ تغيُّرِ ملامحِ وجههِ ونبرةِ صوتهِ، ليخبرَهَا بلا رحمةٍ “ابنُكِ مُصاب بمتلازمة داون، سيكونُ لديه إعاقةٌ ذهنيةٌ، وعليه أن يتعايشَ مع عددٍ كبيرٍ، منَ الأمراضِ المُصاحبةِ لهذا الخللِ الجِيني. إنَّ قدراتِ هؤلاءِ الأطفالِ لا تتطوَّرُ، سينشِئُ طفلاً غيرَ طبيعيٍ، ولنْ يكونَ قابلًا لتعلُّمِ أيِّ شيءٍ في الدُّنيا، ولا يوجدُ علاجٌ”.  

تجمَّدت كلُّ مشاعِرِهَا فجأةً، حتى دموعُها تحجرتْ بعينيها. لم تنطقْ بكلمةٍ، لكنَّ صوت حطامٍ، كانَ يملأ قلبَهَا الذي فرغ، وضجيج يهدرُ بعقلِها الذِي غابَ عن الوعي. شعرتْ أن صغيرَهَا أصبحَ ثقيلاً فجأةً، فقد كانتْ تحملهُ ومعه صدمتُها وإحباطُها وكلُّ الألمِ الذِي قبضَ روحَهَا. أحسَّتْ أنَّ كلَّ أحلامِهَا التِي بنتها لطفلهَا تحطَّمتْ، فانهارَت دنياها، وأظلمتْ شمسُ حياتِهَا وهِي في مهدِها. آلافُ الأسئلةِ تضجُّ برأسها “لماذا أنا؟ لماذا طفلي؟ لماذا يحدث معي هذا؟ أليسَ من حقي، أن يكونَ لدي طفلٌ سليمٌ لا يُعاني من شيء؟ كيف أتعاملُ معه؟.  

حين تمالكتْ نفسَهَا قليلًا سألتْ الطبيبَ “كيفَ عرفت أنه مريضٌ؟، كيف شخصتَ ابني وهو يبدو سليمًا معافىً؟” فأجابها ساخرًا: “نعرفُهم عند النظرِ إليهِم، لا نحتاجُ لأشعةٍ وتحاليلَ، لنكتشفَ أنَّهم مصابونَ بمتلازمة داون”، فوجهُهم المستديرُ ومساحةُ ذقنِهم الصغيرةِ، وأصابعُ أقدامهمِ الُمتباعدةُ عن بعضها، كذلكَ حجمُ اللسانِ الكبيرِ، كافيةٌ لأن نعرفَ أن هؤلاء الأطفالَ مُصابونَ بمتلازمة داون”.  

حكم بالإعدام أصدرَهُ بأعصابٍ باردةٍ، وصوتٍ هادئ يذبحُ بلا مبالاةٍ، ودون أدنى محاولةٍ، لتخفيفِ الواقعِ الحادِّ الألم، أو معاونة الأبوينِ لمعرفةِ طبيعة ابنِهما المختلفة، وتقبُّله وكيفيةُ التعاملِ معه. تركهُما في دوامةٍ قاسيةٍ، لا يعرفانِ منهَا فكاكًا، أو من أين تكونُ البدايةُ. 

غادرتْ المستشفى، تحملُ بين يديها ضعفًا، رفضتهُ منذُ اللحظةِ الأولى لإدراكِهِ، وخوفًا يفترسُها من مجهولٍ، يتربصُ بها بظلامِ مستقبلٍ ضبابي الملامحِ، لا تكادُ تتبينُ بارقةَ نورٍ، قد تهديِها على دربهِ. فيما كان زوجُهَا، يحملُ داخلَه طاقةَ حبٍ هائلةٍ، تفجَّرتْ لتحتويَ ذلكَ الصغيرَ، تقبَّلهُ كمَا هو، وخوفٌ ألاَّ يكونَ بقدرِ هذه المسؤوليةِ، أو يضعفُ، أو أن يقصّرَ في حقهِ. يخافُ عليهِ من تنمّرِ الناسِ، من جهلهِم بطبيعةِ هؤلاءِ الملائكةِ المختلفين عنهم قليلًا، ويحتاجونَ للمساعدةِ، من عدم قدرتِهِ على الدفاعِ عنه وحمايتِهِ، من ضعفِهِ وقلةِ حيلتِهِ في مواجهةِ ذلكَ الامتحانِ الصعبِ، لكنَّ بقدرِ ذلكَ الخوفِ، كانَ هناك قدرٌ مساوٍ من القبولِ والحبِ، والإصرارِ والعزيمةِ على مساعدتِهِ، ومُساندتهِ مهما كلفه الأمرُ من عناءٍ.  

بدأ معه رحلةَ الألفِ ميلٍ، ببرامجِ التأهيلِ الطبيعيِّ والتخاطبِ وتنميةِ المهاراتِ، عن طريق نماذجَ ملموسةٍ. كان يعلِّمُه باللعبِ والغناءِ والتمثيلِ، لأن لديه صعوبة في التخيُّلِ، ويحتاجُ إلى إعادةِ أيِّ تدريبٍ، مراتٍ ومرات حتى يتقنَه. كانَ يشعرُ بالألمِ من نظراتِ الأخرينَ له، وهم يخافونَ علىَ أولادِهِم منه، لكنَّه كان حريصًا، على عدم فرضِهِ على الناسِ، وألاَّ يشعرَ سوى بالحبِّ والتقبلِ. كما عانى من رفضِ المدارسِ أن تقبله، لكنَّهُ لم ييأسْ. ظلَّ يساعدُه ويجتهدُ في البحثِ عن مدرسةٍ، تقبلُ دمجَه مع أقرانهِ، فالفرق الوحيدُ في حجم المجهودِ المبذولِ معه، ليُحَصِّلَ ما يتعلمونه، كذلك هو يحتاجُ لمزيد من الوقتِ والرعايةِ. كان يؤمنُ بطاقات ابنِهِ، لذلكَ اعتصرَ نفسَه، ليوفرَ له أقصى حدٍ من وسائلِ تنميةِ المهاراتِ، لاستغلالِ تلكَ الطاقاتِ، فاشتركَ له في فريقِ السباحةِ، لذوي القدراتِ الخاصةِ، والتي برعَ فيها إلى حدِّ الحصولِ على ميدالياتٍ ذهبيةٍ، على مستوى العالمِ، كمَا لاحظَ ميولَه وإبداعَه بمجالِ الرسمِ، عن طريقِ الورشِ الفنيةِ. كان فخورًا به، لأنه تحدى الأطباءَ، الذينَ توقعوا ألاّ يصلَ لأيِّ نجاحٍ، ومع ذلك حققَ الكثيرَ من الإنجازاتِ.  

فيِمَا كانَ الأبُ، يتحملُ كلَّ هذهِ الضغوط، ويحاربُ ببسالةٍ في كلِّ الاتجاهاتِ، ويُساندُ ابنَه بلا حدودٍ، وينتحرُ لتوفيرِ النفقاتِ الباهظةِ، لتكونَ حياةُ ابنهِ أفضلَ، كانتْ هي تكتفِي، بأنها أمٌ على الهامشِ. كانت تخشىَ أن تتورَّطَ في حبهِ، وقد تملكهَا هاجسٌ أنها ستفقدُه حتما بيومٍ قريبٍ، نظرًا لإصابتهِ ببعضِ الأمراضِ، ومنها ضعف قلبهِ الصغيرِ. كانت تحاولُ تجنُّبَه قدرَ استطاعتِهَا، وتبتعدُ عمَّا يدورُ بحياتِهِ. لم تتجاوزْ كلماتِ الطبيبِ التِي ظلتْ تطنُّ برأسِها، أنَّه لن يتعلمَ شيئًا ولن يكونَ طبيعيًا، لم تُرِدْ أن تعيشَ معه، إخفاقاتِهِ وخيباتِهِ ومحاولاتِه المتكررةَ، لإحراز النجاحِ، فقد كانت دائمًا على يقين، أنه سيفشل في النهاية. اقتصرت علاقتها بتفاصيل حياته، على الحد الأدنى من خدمته، فيما كان الأب، هو السندُ الحقيقيُّ، والداعمُ الأساسيُّ له.  

حين وصلَ لسنِّ السابعةِ عشرة،َ كانَ قد حقَّقَ الكثيرَ في المجالِ الرياضيِ والفنِّي، وقررَ الالتحاقَ بكلية التربيةِ الفنيةِ، فلحسنِ حظِّه، قد صدر قانون يُلزمُ المؤسساتِ التعليميةَ، بدمجِ مصابي “متلازمة داون” بالتعليم التقليدي. 

قبل التحاقهِ بالكليةِ بأيامٍ استدعاه والدُه، وقد اطمأن لمستقبل ابنِهِ وقدراتِهِ، التِّي درَّبَهَا لسنواتٍ لتحققَ النجاحَ، وبادره بقولهِ “أريدُكَ أن تعرفَ أنكَ شجاعٌ جدًا، وأنا فخورٌ بكَ جدًا جدًا. أعلمُ أنَّه من الصعبِ أن تكوَن مُختلفًا، لكن هناك الكثيرَ من المحاربينَ أمثالِكَ، ويعيشون حياةً كاملةً. لا أريدُكَ أن تضعفَ أبدًا، حافظ ْعلى قوتِكَ، واعتمدْ على نفسِكَ، بل أريدُكَ أن تعتنِيَ بوالدتِكَ فهي ضعيفةٌ وخائفةٌ، وأنتَ رجلُها من بعدِي، وأنا أعلمُ أنَّكَ قادرٌ علىَ ذلكَ وأثقُ بكَ”. 

أغلقتْ بابَهَا خلفَ آخرِ المعزينَ، كانت أضعفَ من أن تقفَ في مواجهةِ مخاوفِها دونِه. لم تدرِ ماذا تفعلُ، أو كيف تتعاملُ معَ ذلك الذِي ظلَّتْ تهربُ منه، علىَ مدارِ سنواتِ عمرِه، والذِي اختفىَ داخلَ حجرتِهِ، ولم تلمحُهُ منذ وفاةِ والدِهِ ولمدةِ ثلاثة أيام، كان البيتُ خلالَهم يمتلِئُ بالأقاربِ والأصدقاءِ، أما وقد أصبَحَا بمفردْهِمَا الآنَ، فعليْهَا علىَ الأقلِّ أن تطمئنَ أنَّه بخيرٍ. 

ظلتْ واقفةً حائرةً لأكثرِ من ساعة كاملةٍ، تقدمُ خطوةً وتؤخرُ الثانية، إلى أن حسمَ هوَ الموقفَ وخرجَ من غرفتِهِ. تقدمَ منهَا في خطواتٍ متعثرةٍ، هو أيضًا يغالبُ أحزانَه، على والدِهِ وألمِ فقدِهِ، وغربةِ مشاعرِهِ عن أمِّهِ، التِي لا يتذكرُ أنَّها احتضنتهُ قبلاً. وقفا لدقائقَ وكأنَّهما غريبان، يلتقيان لأولَّ مرة، لا يدري كلاهُما ما عليه أن يفعل. سيلٌ من دموعِ العجزِ أغرق وجهَهَا، لتسارعَ بإخفائِهِ بين كفيها، أما هو فتقدمَ منها في هدوءٍ ليحتضنَهَا بقوةٍ قائلًا: “بابَا كان بيحضني كده، لما أخاف أو أزعل، وأنا عارف أنك خايفة وزعلانة، وأنا دلوقتي مكان بابا”. لم تصدقْ نفسَهَا، وهِي بأحضانِهِ لأولِ مرةٍ، رجلًا يحتويِها، ويحتوي حزنَهَا وخوفَها بكلِّ الحبِّ، بل وينزعُ عنها حيرتَهَا، ويسندُ ضعفَهَا، ويمدُّ لها يدَ العونِ على تحمُّلِ مسؤوليته. كان لدهشَتِهَا أكثرَ محبةً وإنسانيةً، أكرمَ وأشجعَ، بل وأقوى منها.  

  منذ ذلك اليومِ، بدأتْ تتعرفُ عليه من جديدٍ. تكتشفُ قدراتِه، التي كانت تستهينُ بها، وتتعلمُ منه الحبَّ، الذي ضنتْ عليهِ به. تندمجُ بعالمهِ، الذِي وقفتْ ببابهِ دوما، وجَبنت أن تدخلهُ، وكانَ أولَ ما صادفَهَا، وخطفَ قلبَهَا بذلكَ العالمِ، لوحتُه التِي كانَ على وشكِ الاشتراكِ بها، في مسابقةٍ دوليَّةٍ، وإذ بها لأمٍ تحتضنُ صغيرَهَا، وتحملُ ملامِحَهَا هِي، أمُّه، أما الطفلُ فيحملُ الكثيرَ منْ ملامِحِه هو، وكأنها كانتْ أمنيةَ عقلِهِ الباطنِ، التِي عبَّر عنها بروعةِ تلكَ اللوحةِ. أحبته، ذلكَ الملاكُ الذي يحملُ براءةً خالصةً، وقلبًا رقيقًا، لا يعرفُ سوى الحبِّ الصافي، لكنَّه عليلٌ.  

  فتحَ عينيهِ بوهنٍ، قفزَ قلبُها إليهِ، ارتسمتْ ابتسامةٌ باهتةٌ على شفتيهِ، تقدمتْ منه، لتطبعَ قبلةً مبللةً بدموعِهَا على جبينهِ، فيجيبُها “متخفيش هخف عشان مسيبكيش لوحدك، أنا وعدت بابا، ولازم أحافظ على وعدي”. 

إن الحبَّ هو أن تقبلَ الآخرَ كمَا هو، أن تكونَ حاضرًا له، تؤمنُ بهِ وتفعلُ كلَّ ما بوسْعِكَ من أجلهِ برُوُحٍ مُحاربةٍ، وعطاءٍ مجانيٍ بلا حدودٍ.. بلا شروطٍ . .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!