إقتصاد الريع أو حين تصير النعمة نقمة

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

في البدء كانت الكلمة..وفي كلمتنا العربية كنوز من المعاني التي لا تختزل مفردات بقدر ما تختزل رؤى كونية وحِكَماً وجودية. فكلمة “ريع” التي نحن بصددها والتي يتم تداولها على نطاق واسع، ليست مجرد مصطلح اقتصادي جاف، بل هي شجرة معنوية تمتد جذورها في أعماق لغتنا وتراثنا. إنها من “راعى”، بمعنى زاد ونما، ويقال “رَيعَ الزرعُ” إذا نما وأثمر. إنها صورة للبركة والنماء، لكنها نماء يأتي من غير كدٍ يُذكر، كالغيث ينزل من السماء فيحيي الأرض من غير تعب. وهذا هو جوهر الريع في أصله اللغوي، ما يجنى من الأرض أو المال دون كد أو تعب، كالإيجار أو العائد الثابت.

لكن هذه البركة الظاهرة قد تتحول، في واقع المجتمعات والدول، إلى نقمة مستترة، حين تتحول من مصدر للرزق إلى منهج حياة، ومن نعمة مؤقتة إلى لعنة دائمة. وهذا هو بالضبط ما يحاول الاقتصاد الريعي أن يفعله بالمجتمعات، بأن يحولها من مجتمعات منتجة فاعلة، إلى مجتمعات مستهلكة متلقية، تنتظر عطاء السماء أو الأرض من غير أن ترفع يدها لتسقى أو تحصد.

إن الاقتصاد الريعي، كما تصفه الدراسات الحديثة، هو ذلك الاقتصاد المعتمد على مصدر دخل خارجي أو طبيعي لا يتطلب مشاركة واسعة من المجتمع في عملية الإنتاج. إنه اقتصاد الريع لا الكد، والعطاء لا الكسب. وهو في واقعنا المعاصر يتخذ صوراً عدة، كدولة تعتمد على تصدير النفط أو الغاز، وأخرى تعتمد على تحويلات العاملين في الخارج، وثالثة تعيش على رسوم العبور أو الامتيازات الجغرافية، كل ذلك دون أن يكون هناك قاعدة إنتاجية متينة، صناعية كانت أم زراعية أم معرفية.

إن خطورة هذا النموذج لا تكمن في مصدر الدخل بحد ذاته، فالنفط نعمة، والتحويلات مورد، ورسوم العبور حق، لكن الخطورة تكمن في تحول هذا المورد إلى منهجية حكم، وفلسفة مجتمع، ورؤية للعالم. فالدولة الريعية، بحكم طبيعتها، تميل إلى المركزية الشديدة، حيث تتركز السلطة والثروة في أيدي قلة، ليس لأنهم أكثر كفاءة أو أشد عملاً، بل لأنهم يسيطرون على صنبور الريع. وفي هذه الدولة، يضعف الحراك الاجتماعي، لأن النجاح فيها لا يقاس بالإبداع أو الإنتاج، بل بالقرب من مصادر الثروة والتوزيع. وتزدهر في أحضانها الزبائنية السياسية وما تنتجه من فساد اداري و انتخابي، حيث الولاء يصبح سلعة تشترى كالأصوات الإنتخابية، والمواطنة تتحول إلى علاقة نفعية بين موزع ومتلق.

ولعل أعمق تحليل لهذه الظاهرة يتمثل في أن الدولة الريعية لا تحتاج إلى شعبها بالمعنى الإنتاجي، بل تحتاج إليه بالمعنى الاستهلاكي فقط. فالشعب في الدولة الريعية ليس شريكاً في الإنتاج، بل هو متلقٍ للعطاء لضمان سكوته وشراء ولائه. وهذا يفسر لماذا تضعف المساءلة والمحاسبة في هذه الدول، فالحاكم الذي لا يحتاج إلى ضرائب شعبه، لا يحتاج إلى رضاه بالضرورة. إنها معادلة مقلوبة. ففي الدولة الإنتاجية، يدفع المواطن الضرائب مقابل الخدمات، مما يخلق علاقة تبادلية تفرض المساءلة. أما في الدولة الريعية، فالحكومة هي التي “تمنح” الخدمات، مما يخلق علاقة منّة وهبة، تضعف فيها المساءلة وتتهاوى فيها الحقوق.

وفي المقابل، يقف الاقتصاد الإنتاجي بمنطق مختلف ورؤية مغايرة. لأنه اقتصاد لا يعرف المعجزات ولا ينتظر المنح، بل يؤمن بالعمل والكدح والتحويل. إنه اقتصاد يرفض أن تبقى الموارد خاما، بل يسعى إلى تحويلها إلى منتجات وخدمات، وإلى إضافة قيمة معرفية وعملية لها. إنه اقتصاد يتطلب، بالضرورة، بنية تحتية متينة، وتعليماً حديثا وراقياً، ومؤسسات فعالة كالصحة و العدل و الأمن، ومجتمعاً نشطاً. وهو اقتصاد لا يعرف المركزية الشديدة، لأنه قائم على المشاركة والتبادل، ولا يعرف الزبائنية، لأنه قائم على الكفاءة والتنافس.

والدول التي تبنى اقتصاداتها على الإنتاج، تكون في العادة أكثر استقراراً وأقدر على النمو المستدام، لأنها لا تعتمد على مصدر واحد للدخل، بل على منظومة متكاملة من القطاعات. وهي أكثر قدرة على مواجهة الصدمات، لأن اقتصادها قائم على التنوع لا التمركز، وعلى الإبداع لا الاعتماد. والأهم من ذلك، أن الدولة الإنتاجية مضطرة إلى بناء علاقة تبادلية مع مجتمعها، لأن الإنتاج يتطلب مشاركة واسعة، والمشاركة تتطلب مساءلة حقيقية، والمساءلة تقتضي توزيعاً أكثر عدالة للثروة والسلطة بخلاف إقتصاد الريع.

إن الفرق بين الاقتصاد الريعي والاقتصاد الإنتاجي، إذن، ليس فرقاً في مصدر الدخل فحسب، بل هو فرق في البنية الاجتماعية، وفي العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفي رؤية الإنسان لمصيره ودوره في الحياة. إنه الفرق بين مجتمع ينتظر العطية، ومجتمع يصنع النعمة. بين مجتمع يتلقى الأسماك، ومجتمع يتعلم الصيد. فشتان بين العطاء و التسول.

والتاريخ يشهد أن الحضارات التي اعتمدت على الريع، لم تدم طويلاً، لأن الريع، بطبعه، مصدر ناضب، والحضارة تحتاج إلى ينبوع متجدد. بينما الحضارات التي اعتمدت على الإنتاج، استطاعت أن تترك أثراً في التاريخ، لأنها كانت تجسد قيم العمل والإبداع والإضافة.

إن تحول الدولة من الريعية إلى الإنتاجية ليس مجرد تحول اقتصادي، بل هو تحول ثقافي وحضاري شامل. لأنه وبكل بساطة هو تحول من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الإنتاج، ومن عقلية التلقي إلى عقلية العطاء، ومن رؤية القصر إلى رؤية المسجد. إنه تحول يحتاج إلى شجاعة سياسية، وإرادة مجتمعية، ورؤية استراتيجية.

وفي ختام هذا الحديث الذي أردت أن أشارككم رأي فيه، نستحضر قوله تعالى : “وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ” (النجم: 39). إنها آية تضع الأمور في نصابها، وتذكرنا بأن النجاح الحقيقي، في الدنيا والآخرة، هو ثمرة السعي والعمل، وليس مجرد الانتظار والتلقي.

في رأيكم، ما الفرق الجوهري بين الاقتصاد الريعي والاقتصاد الإنتاجي، وأيهما أكثر ملاءمة لمستقبل أمتنا بصفة عامة ولدولتنا بصفة خاصة؟ وهل المغرب دولة إنتجاية أم رعية؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!