
المصطفى الجوي – موطني نيوز
في المغرب، كما في العديد من البلدان، تحول الأمن من حق أساسي يُفترض أن يكون مكفولاً لكل مواطن إلى مطلب يُستجدى، إلى خدمة ننتظرها بعد فوات الأوان، بعد أن نكون قد تعرضنا للسرقة أو الاعتداء أو الإهانة. لم يعد الأمن ذلك الشعور الطبيعي الذي يجعلك تسير في الشارع مطمئناً، بل أصبح رقماً هاتفياً تطلبه حين يحل بك الخطر، فتنتظر وصول من ينقذك، إن وصلوا في الوقت المناسب. كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ كيف تحول الأمن من إحساس يومي إلى رقم طوارئ؟
لنناقش الأمر بعيداً عن الكلمات المنمقة، ولنخض مباشرة في صلب الإشكالية. الرقم (19) موجود، نعم، وهو خدمة لا يمكن إنكار أهميتها، لكنه يبقى حلاً ترقيعياً لواقع أمني مترهل. فوجود رقم للنجدة لا يعوض غياب الأمن الوقائي، لا يعوض غياب الشرطي الذي يفترض أن يكون حاضراً في الشارع قبل أن نضطر إلى الاتصال به. الأمن الحقيقي ليس رد فعل، بل هو فعل استباقي. هو أن ترى رجال الأمن في حيك وفي الشوارع، في ساعات النهار والليل، لا أن تبحث عنهم عبر الهاتف حين يقع المصاب.
المشكلة تكمن في أن الأمن في المغرب، أصبح يعمل بنظام “الإطفائية”، أي أنه يتدخل بعد اندلاع الحريق، لا قبل اشتعاله. المجرم يعلم أن الشرطة لن تكون موجودة في ذلك الزقاق المظلم بعد منتصف الليل، فيتحرك بكل حرية، يسرق، يهدد، بل وقد يقتل، وهو واثق من أن الرقم (19) لن يصل إليه إلا بعد أن يكون قد فرّ هارباً. المواطن العادي، من جهته، يعيش في خوف دائم، خاصة في الأحياء الشعبية والمناطق المهمشة، حيث يتحول الليل إلى ساحة مفتوحة لكل أنواع الانحرافات.
الدوريات الأمنية هي العصب الأساسي للأمن الوقائي. عندما ترى سيارة شرطة تجوب الأحياء باستمرار، عندما تعلم أن هناك رجال أمن يراقبون، فإن المجرم سيفكر ألف مرة قبل أن يقدم على جريمته. لكن عندما تغيب هذه الدوريات، أو تكون وجودها شكلياً، فإن الرسالة التي تصل للمجرم واضحة: “هذه الساحة خالية، افعل ما تشاء”. وهذا بالضبط ما يحدث في كثير من الأحياء، حيث يتحول الليل إلى زمن الفوضى، ويصبح المواطن بين خيارين: إما أن يخاف ويغلق بابه وينتظر الأسوأ، أو يتحول إلى حارس نفسه، وهو ما يفتح الباب أمام أشكال مختلفة من العنف والعشوائية وتطبيق شرع اليد.
فالحديث عن الأمن لا يكتمل دون التطرق إلى الثقة بين المواطن والمؤسسة الأمنية. فكثيراً ما يتردد المواطن في الاتصال بالرقم (19) إلا في حالات الخطر الحقيقي، لأن ثقته في سرعة الاستجابة أو حتى في جدية التعامل مع شكواه ضعيفة. هناك من يتصل ولا يأتي أحد، وهناك من يجد أن التعامل مع شكواه تمت بروتينيّة باردة، دون إحساس بأهمية ما تعرض له. هذا يقتل روح المبادرة في الإبلاغ عن الجرائم، ويجعل المجرم أكثر جرأة.
لا يكفي أن ننتقد، بل علينا أن نطرح الحلول.
أولاً، يجب تعزيز الأمن الوقائي من خلال زيادة عدد الدوريات الأمنية، خاصة في الأحياء التي تعرف ارتفاعاً في معدلات الجريمة، وفي الأوقات التي تكثر فيها الحوادث، كساعات الليل المتأخرة.
ثانياً، ضرورة تفعيل نظام المراقبة عبر الكاميرات في الأماكن العامة، ليس للتجسس على المواطنين، بل لردع المجرمين وتسهيل ملاحقتهم.
ثالثاً، تحسين استجابة فرق الأمن للبلاغات، بحيث يصبح وصولهم سريعاً وفعالاً، مما يعيد الثقة في المؤسسة الأمنية.
رابعاً، تعزيز التنسيق بين الأمن الوطني والسلطات المحلية والمجتمع المدني لخلق شبكة أمان مجتمعية تمنع الجريمة قبل وقوعها.
وفي النهاية، الأمن ليس خدمة نطلبها، بل هو حق نستحقه. لا يجب أن نصل إلى مرحلة نستجدي فيها الأمن، بل يجب أن يكون حاضراً في حياتنا اليومية، في شوارعنا، في أحيائنا، في كل مكان. الدولة مطالبة بأن تعيد النظر في استراتيجياتها الأمنية، ليس فقط من ناحية الموارد، بل من ناحية الفلسفة نفسها: لأن الأمن يجب أن يكون وقائياً، لا رد فعل. فالمواطن المغربي، مثل أي مواطن في العالم، يستحق أن يعيش دون خوف، أن ينام دون قلق، أن يسير في الشارع دون أن ينظر خلفه كل لحظة. هذا ليس طلباً كبيراً، هذا أبسط حقوقه.
فهل نعي ذلك قبل أن يصبح الاستجداء عادة، وقبل أن يتحول الخوف إلى سمة يومية؟ وعليه أقول : الأمن ليس رقماً، الأمن إحساس، وإذا فقدناه، فقدنا جزءاً من إنسانيتنا.فنحن كمواطنون نبحث عن الامن و الأمان لا الاتصال بالرقم (19) بعد فوات الأوان والدخول في دوامة المحاضر و الشواهد الطبية و جيش الشهود الذين يخشون الانخراط في هذه الدوامة و تعريض سلامتهم للتهديد.