
المصطفى الجوي – موطني نيوز
أيها السادة، لقد حان الوقت لأن نكسر حاجز الصمت، ونتحدث بصراحة عن هذا العالم الذي لم يعد يشبه شيئاً مما نعرف. عالم انقلبت فيه المعايير، وتشوّهت فيه القيم، حتى غدا الإنسان سلعة، والأخلاق رفاهية، والعدالة ترفاً لا يُصرف في أسواق المصالح. لقد قررت اليوم أن أقول الحقيقة، تلك الحقيقة التي حاول النظام العالمي الجديد إخفاءها وتغليفها بأقنعة براقة، فيما الواقع أكثر قسوة ودموية مما قد يتخيله عقل حر.
نعم، كل شيء بدأ منذ أكثر من أربعة قرون، حين وُلد العالم الجديد، ليس بموجب اتفاق بين الأمم، بل بموجب مؤامرة كونية حيكت خيوطها في الظلام. عام 1717 لم يكن مجرد رقم على تقويم، بل لحظة انعطاف تاريخي وُلد فيها النظام الذي قرر أن يحكم الكوكب بقبضة المال والإعلام، بعدما جُرِّدت الإنسانية من قيمها، والدين من قدسيته، والبشر من كرامتهم. لم يكن طبع أول دولار عام 1778 حدثاً مالياً بريئاً، بل كان إعلاناً صريحاً عن ولادة إمبراطورية ستغزو العالم ليس بالسيف، بل بالعملة.
لكن لكي يحكم هذا الدولار، كان لا بد من دماء، لا بد من نار تأكل بقايا النظام القديم، فجاءت الثورة الفرنسية عام 1789 لا كصرخة تحرر، بل كحيلة تاريخية لتدمير النسق الأخلاقي الذي حكم البشرية لآلاف السنين. لم تكن الثورة الفرنسية انتصاراً للشعب كما قُدمت، بل بداية النهاية لنظام كانت فيه القيم الإلهية هي الضابط والمرجع. انتهى عصر الكنيسة، ودخلنا في نفق طويل اسمه “العلمانية”، ليس كخيار فلسفي، بل كسلاح موجه لتفكيك الهوية، واغتيال الروح.
ومنذ تلك اللحظة، تسارعت الأحداث كأحجار دومينو تتهاوى. تحوّلت السلطة من الدين إلى المال، ومن النبوة إلى السوق، ومن الشرف إلى الربح. لم يعد السؤال: ما هو الحق؟ بل: ما هو المفيد؟ ولأن الإعلام كان هو الآلة الأخطر في يد النظام، فقد سُحقت العقول تحت جبال من الأكاذيب المُنمّقة، وصار كل شيء قابلاً للبيع: الحقيقة، والضمير، وحتى الوطن.
لا تستغربوا حين أخبركم أن هذا النظام يعرفنا جيداً، يعرف هشاشتنا، يعرف أننا نلهث خلف الربح، ونتعامى عن الدم. يعرف أنني، أنا الذي أدير مؤسسات للقمار، بلا ذرة أخلاق، يمكن أن أُصعد إلى قمة السلطة فقط لأنني أُجيد اللعب بقوانينهم، لا لأنني أمثل شعباً أو أحمل قضية. هذا النظام لا يسأل عن المبادئ، بل عن القدرة على الهيمنة. هل تستطيع السيطرة؟ إذاً أهلاً بك في نادينا المغلق.
لقد عمل هذا النظام العالمي بصبر أسطوري، لا تعرفه سوى كائنات لا تمتلك مشاعر. أطاح بالكنيسة، شطر المسيحية، سحق الخلافة الإسلامية، وجرّد اليهودية من قدسيتها حين دمجها في مشروعه حتى صارت عبئاً على أتباعها أنفسهم. إنه نظام لا يعترف بالأديان، بل يراها تهديداً، ولذلك يعمل على اقتلاعها من جذورها. وما تشاهدونه اليوم من فوضى وصراعات دينية ومذهبية في كل زاوية من هذا الكوكب، ما هي إلا جزء من مخطط الولادة الجديدة للعالم، ولادة من رحم الجحيم، تطلّ علينا على هيئة موت جماعي لا يعترف بالندم.
هل تتساءلون لماذا تُسفك الدماء في كل مكان؟ لأن آلة هذا النظام لا تتوقف. لن تتوقف. والسبب بسيط: لقد تحوّل صانع القرار إلى آلة. آلة لا تعرف الحب ولا الندم، لا تعرف الأمومة ولا الرحمة. هل تعلمون كم من العرب والمسلمين سيموتون؟ ملايين، دون أن يرفّ لهم جفن. سيُسرق نفطنا، وتُنهب أراضينا، وتُشترى ولاءاتنا بدولارات لا طعم لها ولا لون. وحين يُقال لهم : هذا لا يليق بالعدالة! سيكون الجواب جاهزاً : نحن فقط نعاملهم كما يعاملون أنفسهم، لا أكثر.
وسيكون رد حكام هذا النظام نعم، نحن من دمّر العراق وسوريا وليبيا واليمن. ونحن من سيهدم إيران لاحقاً. ولسنا بحاجة إلى ذريعة، فأن تكون قوياً يعني أن تضعف الجميع. أن تشتري صمتهم، أو تُغرقهم في الحروب. وهذا ما فعلناه منذ عقود، ولكن اليوم، لا حاجة لنا أن نتظاهر بالديمقراطية، ولا أن نُخفي أنيابنا خلف قفازات من حرير. لم نعد شرطة العالم كما تعتقدون، لقد صرنا شركة. شركة متعددة الجنسيات، تتعامل مع الكوكب كصفقة تجارية، لا كبيت للجنس البشري.
ولهذا فهم يرون الوطن العربي؟ هو أنسب مكان للهدم. لماذا؟ لأن شعوبه نائمة، ونخبه صامتة، وحكامه يُشترون بثمن بخس. السعودية وحدها أنفقت في اليمن ما يعادل ما أنفقته أمريكا في حرب الخليج، لكنها في النهاية عادت لتقول: نحتاج حمايتكم! مليون دولار لصاروخ يدمّر سيارة ثمنها خمسة آلاف، ثم تسألني عن المنطق؟ أي منطق بقي في هذا العالم؟
كل هذا ونحن لا نزال نتساءل: لماذا يكرهوننا؟ الجواب ليس لأننا أشرار، بل لأننا الأقوى. لا أحد يحب الأقوياء، خصوصاً حين لا يملكون مشاعر. نحن نريد السيطرة على نفط العرب، لأنه بوابة السيطرة على أوروبا والصين واليابان. هذه ليست سياسة، هذه تجارة. وهذه التجارة لا تؤمن بالمنافسة، بل بالإقصاء. لذلك كل من يقف في وجهنا، سنفرض عليه الحرب، أو نُجبره على الاستسلام.
وإيران اليوم مثال حي. لم تهاجمنا، لكننا قررنا تدميرها، لأنها ترفض الخضوع. وضعناها أمام خيارين : الجوع أو الحرب. وفي الحالتين، نحن الرابحون. الرابح هو النظام العالمي الجديد الذي لا يؤمن بالصداقة ولا التحالفات، بل يؤمن بأنك إما أن تكون عبداً أو خصماً.
أيها السادة، لم تعد المعركة بين دول، بل بين منظومة بشرية قررت أن تحكم الأرض بالحديد والنار، وبين شعوب لا تزال تؤمن بالمروءة. والمؤلم أن هذه الشعوب تُخذل من أبنائها قبل أن تُخذل من الخارج. النخب صامتة، الإعلام ممسوك، ورجال الدين تائهون بين الولاء والمصالح. أما المثقفون، فقد اختاروا الصمت مقابل السلامة. وها نحن نغرق.
هل تظنون أن أمريكا تدفع لإسرائيل؟ لا يا سادة. العرب هم من يدفعون. أموال الخليج تُضخ في بنوك الغرب، ثم تُحوّل لإسرائيل على شكل “مساعدات”، بينما شعوبهم تتضور جوعاً، وتُخدر بخطابات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع.
وهنا نسأل : هل من رشد؟ هل من استفاقة؟ هل من نخبة تعلن الثورة الفكرية قبل أن يُستباح ما تبقى من الكرامة؟ لا أظن، فالأمر من سيء إلى أسوأ. هذا النظام لا يرحم، ولا ينتظر. لا يتوقف ليشرح، ولا يعتذر. وإذا بقينا على هذه الحال، فسنستيقظ يوماً لنجد أنفسنا خارج التاريخ، بلا أوطان، ولا هويات، ولا حتى أسماء.
يا من تريدون قراءة سورة الفيل على الصهاينة لما يقومون به من إبادة ضد سكان غزة، يامن تتظاهرون وتبح حناجركم بالهتافات و الشعارات، لا بد أن نفهم أن هذا ليس مقالاً في التاريخ، ولا تأملاً في السياسة، بل هو صرخة في وجه الصمت. العالم يُعاد تشكيله من جديد، لا وفق عدالة، بل وفق صفقات. ومن لا يملك موقعاً على طاولة المفاوضات، سيُفرش تحته بساطاً للمساومة. نحن اليوم، كعرب ومسلمين، مجرد وقود لمحرقة النظام العالمي الجديد. والفرق الوحيد بين من يُحرق ومن يشعل النار، هو أن الأول لا يزال يحلم، والثاني لم يعد يشعر.
فهل سنظل نحلم… حتى نُحرق؟