
المصطفى الجوي – موطني نيوز
حسنًا، اليوم الذكرى الخاصة لاعتلاء الملك محمد السادس عرش المغرب. ماذا عليّ أن أهديه يا ترى؟ آه، وجدتها! بالطبع سأهدي الاعتراف بالنظارات التي يرى منها المغرب العالم. سأهدي الاعتراف بمغربية الصحراء بعد عقود من التسويف والمماطلة والحياد واللعب على حبال الجزائر حينًا والرباط طورًا.
لعل هذا بعض ما دار بخلد رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون قبل أن يقرر، في خطوة أدهشت حتى المغربيين، في رسالة موجهة إلى العاهل محمد السادس، بأن باريس تعترف بسيادة المملكة على الصحراء المغربية. لتتبنى فرنسا الرؤية المغربية لحل قضية الصحراء وتمنح ما يعد انتصارًا دبلوماسيًا للرباط وكبوة للدبلوماسية الجزائرية التي سارعت لسحب سفيرها من باريس على جناح السرعة وكيل الاتهامات، مع شن هجوم كبير على فرنسا ومعها المغرب وعلى كل من يعتقد للحظة أن الجزائر ستتراجع عن دعمها لجبهة البوليساريو الانفصالية في الصحراء.
ولكن إن كان موقف الجزائر معروفًا وموقف المغرب مفهومًا وعدائيًا بسبب الصحراء، أو أن نتيجته كانت خلاف تبعية الصحراء إلى فرنسا، إلا أن السؤال: لماذا اليوم تأتي باريس لتعايد ملك المغرب بعيد عرشه وتعترف له بالصحراء، رغم أن الرباط تضغط على فرنسا منذ عام 2020 لكسر الوضع الراهن واتخاذ موقف أكثر وضوحًا بشأن الصحراء المغربية؟ أو بالأحرى، ما هي منافع فرنسا التي عادة لا تفعل شيئًا لوجه الله بالطبع، خاصة وأن قرارها يعني قطع شعرة معاوية مع الجزائر ودفعها بكل قوة لأحضان روسيا وإيران والصين التي تتحالف معها أصلاً، لكن هذه المرة في أبعد مسافة للجزائر عن فرنسا وأوروبا وكل معسكر الغرب؟
في خطوة مثلت فشل سياسة مصالحة الذاكرة مع الجزائر التي أطلقها ماكرون في السنوات الأخيرة، كما أن توقيت الاعتراف يأتي في ظل عدم الاستقرار السياسي في فرنسا وفي منتصف الألعاب الأولمبية، ما يشي بأن باريس مضطرة جدًا لهذه الخطوة وبأسرع وقت ممكن.
وهنا لابد من التأكيد، بحسب محللين، من أن منافع فرنسا من الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء تنقسم إلى شقين: أحدهما اقتصادي والآخر جيوسياسي. إذ تتطلع باريس تحت حكم ماكرون اليوم إلى حصة من الفوائد الاقتصادية التي يعد بها مشروع “مبادرة الأطلس” التي أطلقها المغرب، وهي الهادفة – لمن لا يعرفها – إلى منح دول الساحل غير الساحلية القدرة على الوصول إلى المحيط من خلال ميناء بقيمة 1.2 مليار دولار في الداخلة بالصحراء المغربية.
وبالطبع لا يمكن تجاهل عامل حاسم آخر في فهم القرار الفرنسي، يتمثل في إعادة التنظيم العالمي خلف حدود الحرب الباردة القديمة وانخراط حلفاء الناتو في منافسات تاريخية على شمال أفريقيا. ولأن المغرب لطالما كان شريكًا موثوقًا للغرب الذي يبدو أنه يخوض حرب وجود ضد الروس والصينيين، وبالتالي حسمت باريس قرارها بأن تحالفها يجب أن يكون واضحًا مع المغرب الذي يشارك الغرب برؤيته لمستقبل المنطقة والعالم.
أما لماذا عجلت فرنسا بالاعتراف بمغربية الصحراء الآن؟ ببساطة لأن الجزائر لا تبدو أنها تفكر بتغيير نهجها القائم على تعزيز علاقاتها بروسيا وإيران والصين، وهو النهج الذي بدأته منذ سبعينيات القرن العشرين، ما يثير خشية حلفاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) من معقل جديد للخصوم في شمال أفريقيا.
ومع بدء تلاشي آمال الغرب، وخاصة فرنسا، بتحقيق خرق بعلاقاتها مع الجزائر، كان لابد من إنهاء حالة الحياد حيال ملف الصحراء المغربية بعد أن انتهجته باريس لسنوات في وقت توترت فيه علاقاتها مع المغرب. حيث لم تحذُ باريس حذو واشنطن ودول غربية أخرى عندما أدى التوصل إلى اتفاق في عام 2020 مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن الاعتراف بمغربية الصحراء إلى تعزيز الثقة الدبلوماسية للمغرب، الذي تلقى أيضًا حينها دفعة قوية أخرى عندما تبعت إسبانيا الولايات المتحدة لتعترف مدريد أيضًا بمغربية الصحراء المغربية.
ما حدا بالجزائر إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في عام 2021 واستدعاء سفيرها في مدريد في عام 2022. كما عطلت الجزائر صادرات الغاز إلى إسبانيا عبر المغرب بإغلاق خط أنابيب الاتحاد الأوروبي والمغرب في الوقت الذي كانت فيه التوترات تتصاعد حول صادرات الغاز الروسية قبل غزوها الكامل لأوكرانيا.
إلا أن إجراءات الجزائر لم تفلح باستمرار الرباط بالضغط على كثير من الدول عبر إعادة تعريف السياسة الخارجية للمملكة ورؤيتها لحلفائها من نافذة الصحراء المغربية. وهو ما يمكن اختصاره بما يقوله دائمًا ملك المغرب محمد السادس بأن “الصحراء المغربية هي العدسة التي ينظر المغرب من خلالها إلى العالم”.
ولكي يعبر المغرب عن استيائه من فرنسا حينها لأنها تخلفت عن ركب أمريكا وإسبانيا، بدا أن العاهل المغربي جمد العلاقات مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث رفض طلبات زيارة رسمية من الرئيس الفرنسي العام الماضي. في وقت بدأت المملكة المغربية بسحب استثماراتها من الشراكات التجارية مع فرنسا التي كانت تعتبر في السابق شريكها الاقتصادي الدولي المفضل.
وكل هذا كان يجري من طرف المغرب بينما ظلت فرنسا ممزقة بين المغرب الحليف الدائم والجزائر الحليف المنشود، ليفشل ماكرون مجددًا في تحقيق التوازن، خاصة مع تتالي سلسلة من الأحداث التي وصفتها باريس بالمُربكة: قضية برنامج التجسس “بيغاسوس”، وأزمة التأشيرة، واستدعاء سفير الرباط إلى فرنسا في فبراير 2023، ورفض المغرب المساعدات الفرنسية بعد زلزال مراكش في سبتمبر 2023.
ورغم أن فرنسا لم تتوقف أبدًا عن مغازلة المغرب لأن باريس لم تكن تريد أن تخسر أرضًا اقتصادية وسياسية مهمة استراتيجيًا في أفريقيا، إلا أن هذا الغزل لم يكن كافيًا بالطبع للمغرب حتى يرضى عن فرنسا. كما لم تكن التوترات بين البلدين كافية أيضًا لتقطع الرباط علاقتها بباريس بالكامل، حيث استمرت في تعاونها الاستخباراتي والأمني مع فرنسا، وهو ما رأيناه بانخراط القوات المغربية في أولمبياد باريس.
وبعد أن سقنا الأسباب المباشرة لقرار فرنسا إنهاء حالة الحياد تجاه الصحراء المغربية، لابد من التطرق للحديث عن السبب الذي تقول دوائر الغرب إنه المباشر. إذ إنه على مدى العقود الخمسة الماضية كانت الصحراء المغربية ثغرة أمنية رئيسة على أبواب البحر الأبيض المتوسط والساحل. واليوم، مع تزايد التقارير حول وجود إيران ومجموعة فاغنر الروسية بين الصحراويين في مخيمات تندوف في غرب الجزائر، أصبح من الضروري للولايات المتحدة والدول الأوروبية وكل الغرب محاولة حل ملف الصحراء المغربية مرة واحدة وإلى الأبد، على أن يكون هذا الحل لصالح المغرب الحليف الذي اختارته واشنطن وباريس وسائر عواصم أوروبا، أيًا كان حجم الغضب الذي سيصب عليها.
فأهلا وسهلا بسيد الإليزي وحرمه في المملكة المغربية الشريفة يوم الإثنين 28 أكتوبر 2024.