المصطفى الجوي – موطني نيوز
في طنجة، يوم 16 غشت 1972، على الساعة الرابعة وعشر دقائق، وصلت ست طائرات مقاتلة مغربية من طراز F5 وظلت تحوم فوق المدينة في انتظار ظهور طائرة مغربية من طراز “بوينغ 727”. كان من المفترض أنها ستدخل المجال الجوي المغربي. سيقول المقدم “ليوتنان كولونيل” أمقران أثناء اعترافاته أمام المحكمة العسكرية إنه بعد دقائق فقط من وصول الطائرات ستة، ظهرت الطائرة الهدف وهي تحمل الملك الحسن الثاني وهو راجع بعد قضاء عطلته في فرنسا.
يضيف أمقران أنه بعد 24 دقيقة، أحاطت هذه الطائرات الست التي كان يتزعمها تابعه الرائد “الكومندار” الوافي أكويرة بطائرة الملك وشكلت تشكيل الشرف. لكن عوض مرافقتها بسلام نحو مطار الرباط سلا حيث كان مقررًا لها أن تنزل، فضّل “الكومندار” أكويرة إبعاد ثلاث طائرات غير مسلحة واحتفظ بالطائرات المسلحة وأمر ربان طائرة الملك بمرافقته والهبوط في القاعدة العسكرية بالقنيطرة.
لكن “القباج”، ربان طائرة الملك، امتنع وبدلاً من ذلك استجاب لتعليمات الملك الحسن الثاني الذي يقول في كتابه “تحدي” أنه لما سمع أمر أكويرة في اللاسلكي بالتوجه لقاعدة القنيطرة، عرف أن هناك فخًا منصوبًا وقرر أن تستمر الطائرة في التحليق إلى غاية مطار الرباط. كان هذا القرار خطيرًا لأن الطائرات المقاتلة الثلاث بدأت في إطلاق النار بالفعل. لكن رغم كل هذا، ورغم التدريب المحكم للطيارين، فشلوا في إسقاط الطائرة رغم حجمها الكبير وقلة سرعتها مقارنة بالطائرات الحربية.
هذا الفشل سيكون محط سخرية بالنسبة للملك عندما قال لمحاوره “إريك لوران” في كتابه “ذاكرة ملك” أن طريقتهم الغبية لإطلاق النار جعلته لا يفخر بهم. جيل بيرو سيستغرب هو كذلك من هذا الأمر في كتابه “صديقنا الملك” حيث قال إن إخفاقهم في إسقاط الطائرة يشبه إعطاء بندقية لقناص ماهر وفي الأخير يفشل في إصابة بقرة مربوطة بالقرب منه في ساحة مكشوفة.
المهم أن طائرة الملك، ولسبب ما، تمكنت من الإفلات من هذه الكارثة رغم إصابتها البليغة. استطاعت أن تصل إلى وجهتها في أمان، وبالفعل تمكن الملك من النزول والاختباء. لكن حدسه قال له بأن الطائرات الحربية ستهاجمه على الأرض، وبالفعل عادت الطائرات من جديد وقامت بقصف طائرة الملك وهي على المدرج بالإضافة إلى قصفها لموكب الملك وبعد ذلك القصر الملكي. نجا الملك من كل هذه المحاولات رغم أن اثنين من الحرس الخاص به قتلا خلال هذه العملية ليصل العدد إلى مجموع عشرة ممن قتلوا.
مع منتصف الليل، كانت القاعدة العسكرية بالقنيطرة مطوقة بالجيش، و”الكومندار” أكويرة كان قد ألقي القبض عليه. أمقران، الذي فر إلى جبل طارق، كان قد ألقي القبض عليه هو كذلك وتم تسليمه للمغرب من طرف السلطات البريطانية. في حين استعاد الملك الحسن الثاني السيطرة على الأمور.
في فجر اليوم التالي، 17 غشت 1972، أعلنت وكالة المغرب العربي للأنباء أن وزير الدفاع الجنرال أوفقير انتحر في مكتبه بسبب ما يُقال “وفائه للملك عندما لم يتمكن من إنقاذه”. كانت في الواقع جملة غريبة يصعب تصديقها، لكن الأخبار كانت أسرع. ففي اليوم الموالي، بعد دفن أوفقير في 18 غشت 1972، ستتغير الرواية. وفي ندوة صحفية لوزير الداخلية آنذاك “محمد بنهيمة”، أعلن أن الجنرال أوفقير لم ينتحر في مكتبه بل في القصر، وليس بسبب وفائه ولكن لاكتشاف خيانته وتورطه في القضية. هذه هي القصة المعروفة للجنرال أوفقير.
رغم اختلاف الروايات حول تفاصيل ما حدث، فإن المتفق عليه هو أنه حين حل الليل كانت قاعدة القنيطرة قد أصبحت مطوقة من الجيش. تم إلقاء القبض على الكومندار أكويرة، وحتى أمقران الذي فر إلى جبل طارق تم تسليمه من قبل السلطات البريطانية للسلطات المغربية. والملك كان قد استعاد السيطرة على الأمور.
فاطمة أوفقير، في كتابها، تقول إن الطائرات المقاتلة كانت محملة بذخيرة تدريب غير متفجرة خوفًا من أن ينحرف أحد الطيارين، متأثرًا بأفكار الفقيه البصري، عن المسار المحدد ويقرر إسقاط الطائرة بدل إجبارها على الهبوط. هذا التغيير هو الذي جعل طائرة الملك لا تنفجر رغم تلقيها للرصاص. تضيف فاطمة أوفقير أن الأضرار التي لحقت بطائرة الملك حصلت بعد قصفها المرة الثانية وهي على المدرج. هذه الرواية تختلف عن الروايات الرسمية وتثير تساؤلات حول ما حدث بالضبط.
بعد انتهاء محاولة الانقلاب ومقتل أوفقير، خرج الملك في عدة مقابلات صحفية وخطابات. لكن الأسئلة لم تنته. هل كان الأمريكيون متواطئين؟ ولماذا قال الملك إنه لم يلتق أوفقير في المطار وأن الجنرال الذي رافقه رآه حيًا، رغم أن الحارس الملكي قال إنه كان أول من رآه ميتًا؟ ولماذا تأخر الإعلان عن وفاة أوفقير بسبب الخيانة؟
وثيقة للمخابرات الأمريكية صدرت في 15 يونيو 1972، أي قبل شهرين تقريبًا من محاولة الانقلاب، تتحدث عن الوضع السياسي والاقتصادي في المغرب بعد محاولة الانقلاب السابقة. تقول الوثيقة في فصلها الأول إنه لا توجد أي معلومات عن احتمالية انقلاب ضد الملك في ذلك الوقت. لكنها تشير إلى وجود شائعات بين الضباط وأن أوفقير، بعد انقلاب الصخيرات، أصبحت لديه شكوك في الملك وأنه يحاول إقناع الملك بتغيير طريقة حياته الصاخبة والقيام بإصلاحات شكلية، حيث إن الإصلاحات العميقة قد تسبب تهديدًا لمنصبه هو أيضًا.
هذا الكلام يدعم العديد من الروايات المتواترة من أكثر من مصدر، والتي تتفق على أن أوفقير بعد انقلاب الصخيرات أصبح أكثر حزمًا ضد الفساد. جون واتربوري يقول إن الصوت الذي سُمع هو صوت رجل يسدد في الشارع. أولاد أوفقير وزوجته يقولون تقريبًا نفس الشيء في كتبهم.
هناك رواية أخرى، منطقية أكثر، يذكرها رؤوف أوفقير في كتابه. يقول إن أوفقير اتصل بالمعارضة للتفاوض معها على تشكيل مجلس وصاية يحكم باسم الطفل محمد السادس، وذلك بعد تنحية الحسن الثاني وإجباره على التنازل عن العرش. قد تكون هذه مجرد افتراض من رؤوف الذي كان في ذلك الوقت مجرد طفل، لكن من جهة أخرى نحن نعرف الآن أنه من بين الأوراق التي عُثر عليها مع الجنرال أوفقير لائحة بأسماء أعضاء مجلس الوصاية.
الفقيه البصري تكلم فعلاً على أن أوفقير خطط للانقلاب بمشاركة قيادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بما في ذلك عبد الله إبراهيم. حدث هذا قبل انقلاب الطيارين في 16 غشت 1972.
وثيقة الاتحاد المؤرخة في 15 يونيو 1972 تشير في النقطة رقم 30 إلى أن أوفقير لديه فرص كبيرة للوصول إلى الحكم إذا قرر القيام بانقلاب ضد الملك. لكن الأهم هو النقطة رقم 32 التي تقول إنه في حال نجاح انقلاب أوفقير، فإنه سيحكم في نظام وصاية بعد تنصيب ولي العهد الطفل محمد (الذي أصبح لاحقاً الملك محمد السادس) كملك على البلاد.
هل كان الفساد في المغرب هو الدافع وراء تخطيط أوفقير للانقلاب، أم كان طموحاً شخصياً؟ رغم أن أوفقير كان وزيراً للدفاع، إلا أنه انقلب على الملك. بعد محاولة انقلاب الصخيرات، خاف الملك الحسن الثاني من الجيش وأخذ يبتعد عن الجنرالات. منع استقبال أوفقير وجلب حارساً شخصياً من فرنسا، وأصبح محاطاً بحراسة مشددة. هل كان هذا هو السبب وراء تخطيط أوفقير للانقلاب؟.
حسب الملك فهد، كان هناك تخطيط واسع لعدة سنوات مع مختلف الأطراف. تحدث عن لقاءات الجنرال مع السياسيين، وأشار إلى أن شخصيات كبيرة كانت متورطة في المؤامرة. هذه الشخصيات تشمل الجنرال بنعمر المحجوبي، الذي أكد هذه المعلومات في كتابه. كما امتدت المشاركة إلى سياسيين من اليسار مثل الفقيه البصري وحتى شقيق الملك المولى عبد الله، الذين وافقوا على العملية.
كانت الخطة تقضي بإجبار طائرة الملك على الهبوط وتشكيل مجلس وصاية. تم تغيير خطة إطلاق النار على الطائرة لتستخدم رصاصات تدريب غير متفجرة، خوفاً من أن ينحرف الطيار عن المسار المحدد ويقرر إسقاط الطائرة بدلاً من إجبارها على الهبوط. هذا التغيير هو الذي جعل طائرة الملك لا تنفجر رغم تعرضها لإطلاق النار.
كان هناك تحذير من أنه في حالة عدم حصول تغيير حقيقي في المغرب، فإن الأوضاع مرشحة للانفجار وأن قلب نظام الحكم في المستقبل القريب وارد جداً. لكن جاءت المسيرة الخضراء لتغير مجرى الأحداث.