
المصطفى الجوي – موطني نيوز
محمد الضيف ذاته أسقطه ساعي البريد في بعض تفاصيل القصة السهلة الممتنعة والمعقدة البسيطة. فقد أخرج الضابط الإسرائيلي من جيبه صورة وعرضها على ساعي البريد العميل وسأله: “هل تعرف من هذا؟” رد الساعي: “نعم، هو يحضر كثيرًا من الاجتماعات مع قائد لواء رفح”. لم يتطرق الضابط معه بالحديث عن إذا كان يعرف من هذا الشخص فقط، وإنما أومأ برأسه وقال: “عندما يأتي لأي اجتماع أو حين توصل أي بريد من أجل اجتماع وتسلمه لجماعتك وتعلم أنه سيحضر إليه، عليك أن تخبرنا فورًا”. وما هي إلا أيام حتى حضر الضيف اجتماعًا، وحضرت معه طائرات إسرائيل لتصفيته وانتهى الأمر.
حسنًا، قبل أن نكمل سرد حكاية الجاسوس الذي أسقط الضيف وكيف أسقطه، وغيره من العملاء الذين أسقطوا الكثير من القادة وتسببوا في تصفيتهم، فلنجب عن سؤال يتردد كثيرًا اليوم، ومفاده: هل حقًا بهذه البساطة، ساعي بريد يسقط الضيف ذاته؟ ولربما لا أبسط من إجابة: ألم تسمع بالمثل القائل “خذوا أسرارهم من صغارهم”؟ كما ألم تملأ الدنيا قصص متسولين ومشردين ومساكين وبسطاء، وحتى ممن ادعوا أنهم أصحاب إعاقات أو شيوخ دين، سواء ممن يستصغر المرء قيمتهم أم ممن لا يمكن الشك بهم، بأنهم كانوا من بين أعتى الجواسيس وأسقطوا دولًا وممالك وإمبراطوريات وليس فقط قادة؟ نعم، لقد عرف التاريخ كثيرًا منهم.
لكن في قصة ساعي البريد الذي أسقط القائد العسكري لحماس، هناك الكثير من العوامل. فبالرغم من أن ساعي البريد مهامه محدودة وبسيطة، إلا أن قيمة ما كان يحمله من معلومات بريدية كانت باهظة الثمن. فكان لا بد من اختياره، كما يقال، من “عظام الرقبة”، وبالفعل هذا ما فعلته حماس. فهو من عائلة كبيرة ومحل ثقة في رفح، ولطالما كان الناقل الأمين لكل ما تعتقد حماس أنه لا وسيلة أخرى لنقله، خاصة مع اختراق إسرائيل لكل وسائل الاتصال التكنولوجية. لكن ما لم تكن تعرفه حماس أو كانت تعرفه وتتمنى أن لا يكون حقيقة هو أن الاختراق تجاوز الوسائط التكنولوجية ليصل إلى العديد من البشر.
لقد ظهرت تقارير إعلامية تروي كثيرًا من التفاصيل التي جاءت عن التحقيق مع ساعي البريد عقب مقتل الضيف في غارة جوية على منطقة المواصي حيث كان مجتمعًا. إذ أن الجاسوس ساعي البريد تفطن إلى قيمة المعلومات التي كان يحملها، وكانت عبارة عن رسائل من محمد شبانة مسؤول لواء رفح في القسام، دلت على مكان اجتماع محمد الضيف ورافع سلامة مسؤول لواء خان يونس. إذ إنه رأى ببساطة الضيف خلال نقله البريد من أجل الاجتماع، وإن كان قبلها لا يعرف من هو هذا الشخص، لكنه اليوم يعلم. وبالفعل كان ساعي البريد مخلصًا لمهنته، لكنه أوصل الرسالة لمن يدفع أكثر. وحينها حددت إسرائيل مكان الاجتماع وقصفت من كان فيه.
الأمر لم يتوقف هنا بالطبع، بل تعداه لكشف معلومات مفادها أن ساعي البريد ليس ابن الأمس بالتجسس لإسرائيل، بل سبق له أن أعطى معلومات عن مكان محمد شبانة مسؤول لواء رفح الذي تعرض لثلاث محاولات اغتيال خلال الحرب. كما أن هذا العميل سلم خرائط كاملة لإسرائيل في مدينة رفح، لا سيما منطقة يبنا وما تحتويه من شبكة أنفاق ومخارط للأسلحة والعبوات والصواريخ والطائرات المسيرة. وبحسب تقارير استخباراتية أمنية لم تؤكدها حماس، التي بالطبع لم تعلن مقتل الضيف أصلًا، فإن العميل كشف كثيرًا من أماكن تواجد المسؤولين لمشغليه بحكم تنقله وعمله في نقل البريد اليدوي واليومي لمسؤول لواء رفح وتسليمه لمسؤولين آخرين في رفح وخارجها.
إذا ما تمعنا باعترافات الجاسوس ساعي البريد حول طريقة اغتيال الضيف، فسنجد أن الضابط الإسرائيلي عرض على الجاسوس ساعي البريد صورة ليؤكد له أنه شاهده يتردد على المنطقة التي يلجأ إليها شبانة، وأخبروه بأنه بمجرد أن يعلم بحضوره للمكان أن يخبر مشغليه. وأثناء توصيله للبريد اليومي، شاهد محمد الضيف في المكان، وقامت إسرائيل باغتياله. ليس فقط بناءً على معلومات ساعي البريد رغم أنها موثوقة، إلا أن إسرائيل قاطعت المعلومات بطريقة أخرى وفق صحيفة “جوش كرونيكل”، التي نقلت عن مصادر أمنية إسرائيلية قولها إن أساس العملية بدأ مع اكتشاف أن الضيف توقف عن اتباع البروتوكولات الأمنية الخاصة، وبعد تلقي معلومات موثوقة من المتعاونين المحليين، والمقصود هنا طبعًا ساعي البريد، كان لا بد من مقاطعتها مع معلومات فريق من المستعربين الذين وصلوا إلى المنطقة وبدأوا بالاندماج مع السكان المحليين، حيث تظاهر بعض أفرادهم بأنهم موظفون في وكالة غوث اللاجئين، وجاؤوا لتقديم المساعدة، فيما تظاهر عدد آخر منهم بأنهم شخصيات دينية إسلامية.
أما الوكيلان السريان اللذان تمركزا قرب المكان الذي وصل إليه الضيف، فقد تنكر أحدهما كبائع في كشك للخضار، فيما كان العميل الثاني يجلس قرب المدخل نفسه، لكنه متنكرًا بهيئة رجل عجوز السن يرتدي ملابس رثة ويبدو كمتسول. وما إن ظهر الضيف وتم التحقق من معلومة ساعي البريد حتى صدرت الإشارة، واتجهت قوات برية باتجاه البحر للهروب من القطاع، ثم التقطت فرقة المستعربين سفينة تابعة للبحرية الإسرائيلية دون إثارة الشكوك. وبعد خمس دقائق، بدأت طائرتان بشن هجمات على الهدف، حيث أصابت إحداهما المبنى ودمرته بالكامل، وكان الضيف قد أصبح داخله.
قد يبدو الأمر سهلًا بالنسبة لشخص أعجز إسرائيل على مدى عقود، خاصة وأن جهاز الأمن العام في حماس لم يعد مسؤولًا عن حماية الشخصيات وتوفير الأماكن لهم كما كان سابقًا جراء تزايد عمليات الاغتيال والاختراقات المتكررة لبنية حماس. فأصبح التأمين ذاتيًا لكل مسؤول عبر مرافقيه وجماعته. إلا أن الأمر بالطبع أكبر من ذلك، فإن إسرائيل تبذل الكثير والكثير وتعمل منذ سنوات على اختراق بنية حماس ونشر الجواسيس في أوصالها. وإن كان الضيف هو الرقم اثنين في حماس من حيث الأهمية، فإن إسرائيل قالت إنها كانت على بعد خطوات من تصفية يحيى السنوار، الذي بات رئيس حماس كلها عقب اغتيال إسماعيل هنية، لاختراق آخر لإيران أيضًا.
ووفق قائد الفرقة الثامنة في الجيش الإسرائيلي، دان جولد فاس، فإن معلومات استخباراتية وصلت إلى القوة الإسرائيلية جعلتها على بعد دقائق من اعتقال قائد حركة حماس يحيى السنوار. وبحسب نص ما قاله جولد فوس في مقابلة مع القناة الثانية الإسرائيلية: “كنا قريبين، كنا في مجمع، وصلنا إلى مجمع تحت الأرض، وجدنا الكثير من المال هناك، كانت القهوة لا تزال ساخنة، والأسلحة مبعثرة في كل مكان، كنا على بعد دقائق حقًا منه”.
ولمن يعتقد أن قضية تجنيد الجواسيس والعملاء من إسرائيل تقتصر على بسطاء القوم من سعاة بريد ومراسلين ومقاتلين صغار، فلنعد بالذاكرة قليلًا لأربعة أعوام خلت، عندما اعتقلت حماس خلية من العملاء في قطاع غزة تتكون من 16 عنصرًا بتهمة التعامل والتخابر مع إسرائيل. ولم تكن الطامة الكبرى هنا، بل إن أغلبهم ينتمون للجناح العسكري للحركة. كما أن الكشف عن الخلية تزامن مع هروب القيادي محمد عمر أبو عجوة على متن قارب إسرائيلي بعد اكتشاف تجسسه على الحركة.
وعقب بعض التحقيقات حينها، تبين أن العميل محمد عمر أبو عجوة مرتبط بالموساد منذ عام 2009. ولمن لا يعرف من هو أبو عجوة، فلا بد من أن نخبره بأنه كان من سكان الشجاعية، وأمير مسجد الإصلاح بالشجاعية، وكان يعمل برتبة رائد في الأمن الداخلي التابع لحماس، وتحديدًا في القسم المسؤول عن التحقيق مع المشتبه بهم والمتورطين في العمالة. كما أنه كان المسؤول عن المنظومة الإلكترونية التي تشمل كاميرات مراقبة وشبكات اتصالات داخلية للقسام تحت الأرض. علاوة على مسؤوليته عن إشارة اللاسلكي، وكان يقع ضمن مهامه كل ما يتعلق بالأمور التقنية لكتائب القسام في الشجاعية، ويعمل مدربًا لدورات في كيفية جمع المعلومات والأمن الشخصي ومكافحة أعمال التجسس. وبعد أن علمت حماس بخيانته، بدأت تحاول إسقاط شبكة كبيرة حينها، ليتبين أن هذه الشبكة تتجسس لإسرائيل منذ 11 عامًا قضتها في العمل والاطلاع على أدق تفاصيل العمل العسكري التقني للقسام.
حينها لجأت حماس إلى إجراءات أمنية سريعة شملت إجراء تغييرات شاملة على أجهزة الاتصالات وشبكة الكاميرات الأمنية ونقاط التواصل وأرقام الهواتف وخرائط الخطوط الأرضية وكل ما يتعلق بالعمل التقني الذي استغرق ببنائه سنوات عديدة، ليتضح أن إسرائيل كانت تعلم بكل هذا العمل السري وبكل تفاصيله.
قبل كل هذا، كانت هناك الكثير من حكايات الجواسيس، ومنهم من لا يخطر على بال، مثل مصعب حسن يوسف، نجل الشيخ حسن يوسف، أحد مؤسسي حركة حماس وأحد أبرز قياداتها في الضفة الغربية. حيث كشف تعاونه مع جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “الشاباك” لأكثر من عقد من الزمان.
واليوم تعود القصة مرة أخرى، فإن بدأت مع ساعي بريد بسيط، لربما تنتهي الأمور بما هو أكبر وأعقد.