وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا

المصطفى الجوي

في سؤال موجه من الذات العليا إلى كل الخلق : “فما ظنكم برب العالمين؟” ماذا تعتقدون؟ كيف ترونني؟ ماذا تعرفون عني؟ سؤال ينبثق منه أكثر من سؤال. وإذا سأل الله، فلا بد أن تجيب صحيحًا، لكن من تجيب؟ هل تجيب الله؟ الله لا يحتاج إلى إجابتك، الله عليم الغيوب، يعلم السر وما يخفى.

إذا سألك الله، فهو يقصد أن تجيب نفسك، وإذا اختبرك الله، فلا أحد غيرك مقصود بمعرفة نتيجة الاختبار. فما ظنكم برب العالمين؟ شوف..أنت ممكن أن تتعاطف مع إنسان ما تعرفه، وقد تمنح التعاطف لأي عابر سبيل، قد تتسامح مع شخص داس على قدمك دون أن يقصد بمجرد أن يوجه لك نظرة اعتذار، قد ترحم عدوك إذا سقط تحت رحمتك، قد تمنح أي شعور بسهولة وبدون مقابل إلا الثقة.

أنت لا تثق بالعابرين في الشارع بدليل أنك لن تترك سيارتك مفتوحة، لا تثق في الغرباء بدليل أنك لا تحدثهم بكل أسرارك في أول مقابلة. أنت لا تمنح الثقة إلا مقابل رصيد من التجارب، وإذا كنت تفعل غير ذلك، أنت تعاني من مشكلة كبيرة.

خلق الله الثقة ووضعها في هذا الكون ودائعه مغلقة داخل القلوب والنفوس لا تنفتح إلا لمن يستحقها بعد أن يقدم براهينه. الثقة غالية لا تمنح بسهولة، لكنها تسحب بسهولة. تعال الآن نفكر كيف تتعامل مع من تثق فيهم..صديق تستطيع أن تبوح أمامه بكل أسرارك دون أن تخشى أن يستخدم هذه الأسرار ضدك يومًا ما، زوجة تغيب عنها وتسافر أو تذهب إلى عملك وأنت تأتمنها على مالك وعرضك دون أن تفكر لحظة واحدة أنها يمكن أن تخون الأمانة. هذه درجة من درجات الثقة.

أقول لك على درجة أعلى من درجات الثقة..الرضيع يقذف به أبوه إلى الأعلى مداعبًا فيضحك لأنه يعرف أنه لن يتركه ويسقط، ركاب الطائرة يسلمون أرواحهم عند باب الطائرة أمانة في يد الطيار، المريض ينام في سكينة تحت يده الجراح يجري له جراحة خطيرة لا يخشى أن تخطئ أصابعه فتكلف حياته. هذه هي الثقة التي يضعها الإنسان في الإنسان.

لذلك يأتي سؤال الله سبحانه بعد كل ذلك مسبوقًا بحرف “الفاء” قائلًا : “فما ظنكم برب العالمين؟” إذا كان هذا هو ظنكم بالعالمين، ما ظنكم برب العالمين؟ ألا تتفق معي أن الله أحق بهذه الثقة وأحرى؟ وضعت ثقتك في بشر قابلين للخطأ والزلل والسهو، قابلين للتغيير، ولم تضعها في الخالق الذي لا يتغير ولا يخطئ. كم مرة تمنيت شيئًا بشدة وانقطعت بينك وبينه السبل، طلبته من الله فحققه لك رغبًا عن كل قوانين الدنيا؟ كم مرة مرضت وشفاك؟ كم مرة تعبت وأراحك؟ كم مرة خفت وطمأنك؟ كم مرة كان الله معك وكم مرة كنت مع الله؟

مسلم أخرج في صحيحه أن رسول الله قال : “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله.” موسى عليه السلام في موقف عجيب، ولما نتكلم عن النبي نتذكر دائمًا قول الله عن الأنبياء : “أولئك الذين هداهم الله بهداه اقتده.” تخيل معي موسى فر مع من آمن معه من بطش فرعون وصل إلى البحر، العدو من خلفهم، كل قوانين العالم تقول إنهم قد ضاعوا. قال أصحاب موسى : “إنا لمدركون”، منتهى اليقين في الهلاك، كلمة “مدركون” جاءت مسبوقة بلام التوكيد، وهذا يعني إيمانهم التام باستحالة النجاة. قوانين الطبيعة تقول ذلك، الفيزياء تقول ذلك، لا يمكن أن يسير إنسان على الماء. ردة فعل موسى كانت : “كلا، كلا، إن معي ربي سيهدين.” عجيبة! أبو بكر يقول لرسول الله وهما في الغار والمشركون يحاصرونهما من كل جانب : “يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا.” الرسول يرد : “لا تحزن إن الله معنا.” طيب، ممكن تقول لي يا أخي : هؤلاء أنبياء ووضعهم استثنائي. الله يقول في حديثه عن المشركين : “وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا.”

عطاء الله على قدر حسن ظنك به. فلو دعاه صالح وعاص بنفس اليقين لأجاب. راجع حساباتك مع الله وأجب نفسك عن سؤاله : “إذا كان هذا ظنكم بالعالمين، فما ظنكم برب العالمين؟” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!