الكلام عن مقامات الحريري إحدى أعظم الأعمال الأدبية في ألفي سنة من تاريخ اللغة العربية، لكن الكلام عن السياسة لا عن الأدب فحسب. يُروى أن أبا محمد القاسم بن علي الحريري البصري شهد ذات يوم في مسجد في البصرة رجلاً عليه أطمار بالية يخطب في الناس ويزعم أن الروم قد أسروا ولده، فبكى الحاضرون في الجامع وأعطاه كل منهم ما تيسر. فلما انثنوا يتحدثون بما رأوا، أخبرهم أصحابهم أنهم رأوه في أكثر من جامع بأكثر من قصة. ويُروى أن هذا المشهد هو الذي أوحى للحريري أن يكتب مقاماته التي عارض بها مقامات بديع الزمان الهمذاني وفاقه حتى أصبحت مقاماته من أهم كتب التراث النثري الأدبي العربي على الإطلاق.
ومقامات الحريري هي خمسون قصة من نثر مسجوع، تحكي كل مقامة منها موقفاً لا يخلو من مكر للمحتال الفصيح أبي زيد السروجي يشهدها ثم يرويها عنه الفقيه الشاب الحارث بن همام، وهو الاسم الذي كنى به كاتب المقامات القاسم بن علي عن نفسه. وأبو زيد والحارث يجوبان بلاد المسلمين شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، فتسمى كل مقامة باسم البلد الذي تدور أحداثها فيه. وقد كانت المقامات من أشهر طرق السرد وفنون النثر في تاريخنا حتى القرن التاسع عشر والقرن العشرين، زمن الغزو والتفرقة، حين رأى فيها كثير من الكتاب الحداثيين عبئاً وظنوا أنما هي زخرف بلا سبب، دروس لغوية في شكل قصص قصيرة متصلة منفصلة، لا هدف لها إلا بيان براعة كاتبها فيما لا خير فيه من حيل الكلام.
ففي المقامة الواسطية مثلاً، يورد كاتبها خطبة كل حروفها خالية من النقاط، أولها: “الحمدُ للهِ الملِكِ المحْمودِ المالِكِ الوَدودِ مُصَورِ كُل موْلودٍ ومآلِ كل مطْرودٍ ساطِحِ المِهادِ وموَطِّدِ الأطْوادِ ومُرْسِلِ الأمطارِ ومسَهِّلِ الأوْطارِ وعالِمِ الأسْرارِ ومُدْرِكِها ومُدمِّرِ الأمْلاكِ ومُهْلِكِها”. وفي المقامة المراغية، يورد رسالة تتوالى فيها الكلمات المنقوطة وغير المنقوطة على التبادل، أو كما يقول: “حُروفُ إحْدى كلِمتَيْها يعُمها النَّقْطُ وحُروفُ الأخْرى لمْ يُعْجَمْنَ قطّ”، وأولها: “الكرَمُ ثبَّتَ اللهُ جيْشَ سُعودِكَ يَزينُ واللُّؤمُ غَضَّ الدّهرُ جَفْنَ حَسودِكَ يَشينُ”. وفي المقامة الرقطاء، يورد رسالة أخرى كل كلمة فيها تتكون من حرف منقوط يتبعه حرف غير منقوط، وهو يفعل ذلك نثراً وشعراً، كأن يقول مخاطباً قاضي طوس تمهيداً للاحتيال عليه طبعاً: “أخلاقُ سيّدِنا تُحَبُّ وبعقْوَتِهِ يُلَبُّ وقُربُهُ تُحَفٌ ونأيُهُ تلَفٌ وخُلّتُهُ نسَبٌ وقَطيعَتُهُ نصَبٌ”، ثم ينشده:
سيّدٌ قُلَّـبٌ سَـبـوقٌ مُـبِـرٌّ
فطِنٌ مُغرِبٌ عَزوفٌ عَيوفُ
مُخلِفٌ مُتلِـفٌ أغَـرُّ فَـريدٌ
نابِهٌ فاضِـلٌ ذكـيٌّ أَنـوفُ
مُفْلِقٌ إنْ أبـانَ طَـبٌّ إذا نـابَ
هِياجٌ وجلَّ خطْبٌ مَخوفُ
أو أن يورد في المقامة المغربية نثراً وشعراً، إذا قرئ من اليسار إلى اليمين ظل على أصله، وكأنك تقرؤه من اليمين إلى اليسار، أو ما يسميه الحريري “ما لا يستحيل بالانعكاس”، كقولك: “ساكب كاس”.
أقول: وبقدر ما احتفى القدماء بمقامات الحريري في زمانه، بقدر ما ازدراها أكثر كتاب النثر الحداثيين في زماننا، فقد رأوا أنها كثيرة الزخرف، وأن الحيل اللغوية فيها ليست إلا عبثاً لا طائل من ورائه، بل اعتقدوا أنها ليست أدباً بالجملة، وأنها لا تصف أحوال النفس المفردة ولا تاريخ الجماعة، فقل من يقرؤها، وكاد ينعدم من يراها قالباً يصلح للكتابة في زماننا هذا. أما أنا، فالرأي عندي أن هذا من جملة ولع المغلوب بالغالب وازدرائه لتراث آبائه. فمقامات أبي محمد القاسم بن علي الحريري، في اجتهادي، نص ثوري بامتياز، واسمعني تفهمني.
أقول: في كل مقامة من المقامات الخمسين، يفكك أبو زيد السروجي، البطل الذي اخترعه الحريري، بنية السلطة في زمانه، فيسخر منها. هو يخدع التجار والفقهاء والقضاة والولاة ويحتال عليهم، فيأخذ مالهم، وكل من يخدعهم أقوى منه سطوة، وأعظم ثروة، وأمكن منه حظوة لدى السلطان. ثم هو يغلبهم بالبلاغة، فيهدم شرعية سلطتهم من أساسها. إن شرعية القاضي من الوالي، وشرعية الوالي من الخليفة خليفة رسول الله، وشرعية الخليفة من الرسول، وشرعية الرسول من الرسالة، وشرعية الرسالة، أي القرآن، تأتي من بلاغتها، إذ أن هذه البلاغة هي علامة كونها رسالة سماوية لم يؤلفها البشر. فالبلاغة في تراثنا أساس كل سلطة سياسية واجتماعية. فحين يخدع أبو زيد رموز سلطة زمانه بالبلاغة، ويبين أنه يمتلكها دونهم، فإنه يزعم ضمناً أنه أولى بالحكم منهم، وأنهم لا شرعية لهم. ويكاد الحريري يصرح بهذا المعنى تصريحاً في مقامته الأولى المسماة بالصنعانية.
ففيها، يرى الفقيه الشاب الحارث بن همام أبا زيد السروجي، وهو لا يعرفه بعد، يخطب في الناس في جامع صنعاء، ويدعوهم للزهد والورع والتحضر ليوم القيامة بفصاحة فذة، فيجود كل منهم عليه بمال. فيخرج به أبو زيد من الجامع، والحارث يتبعه حتى يدخل إلى مغارة فيها باطية نبيذ ضخمة يسكر فيها مع تلميذه. فحين يفاجئه الحارث بن همام بالاعتراض عليه، يجيبه أبو زيد شعراً، وانتبه لمعنى الكلام، وللبيت الأخير خاصة:
لبِسْتُ الخَميصةَ أبغي الخَبيصَـة
وأنْشَبْتُ شِصّيَ في كل شِيصَـة
وصيّرتُ وعْـظـيَ أُحـبـولَةً
أُريغُ القَنيصَ بها والقَـنـيصَة
وألْجأني الدّهْرُ حتـى ولَـجْـتُ
بلُطْفِ احتِيالي على اللّيثِ عيصَه
على أنّني لـم أهَـبْ صـرفَـهُ
ولا نبَضَتْ ليَ مِنْـهُ فَـريصَـة
ولا شرَعت بي عـلـى مَـورِدٍ
يُدنّسُ عِرضيَ نفْسٌ حَـريصَـة
ولو أنْصَفَ الدّهرُ في حُكـمِـهِ
لَما ملَكَ الحُكْمَ أهلُ النّقـيصَـة
وحين يسأل الحارث التلميذ عن اسم شيخه، يعرفه التلميذ بأنه أبو زيد السروجي، سراج الغرباء وتاج الأدباء. وهنا يصبح ما ظنه النقاد والقارئون المتأخرون من الأدباء المتفرنجين في العصر الحديث زخرفاً، وفضلوا عليه واقعية تشارلز ديكنز أو نجيب محفوظ مثلاً… أقول: يصبح ذلك الزخرف ذا وظيفة حيوية في النص. فكلما أوغل الحريري في جعل أبي زيد قادراً على اللعب باللغة، كلما سحب الشرعية من رموز السلطة في زمانه، الذين يظهرون بمظهر ذوي العِي والحمق، بل ويسخر الحريري بهذه الألعاب من اللغة نفسها، كأنه يقول: “صولجانكم البلاغي هذا الذي به تحكمون به الناس، أنا أقدر أن أرميه وألقفه في الهواء كالبهلوان، أن ألعب به ألعاباً شديدة العبثية، كأن أكتبه من اليسار إلى اليمين أو أبادل بين المهمل والمعجم، لا أنتم شيء، ولا البلاغة هذه التي تملكون بها رقاب العباد شيء”.
وممّا يزيد من سحب الحريري الشرعية من أقوياء زمانه، أنه يجعل السبب في رحلات بطله أبي زيد كلها، واتخاذه الاحتيال على الحكام نهجاً، أن الروم غزوا بلده سروج، فأصبح لاجئاً. فبفشل المؤسسة السياسية والعسكرية في حماية العباد والبلاد، سقطت شرعيتها. فحين سقطت سروج، أصبح السروجي مُكدياً يخدع رموز السلطة، فيهدم سلطانهم ويظهرهم حمقى وذوي عي وهم ولا يشعرون. ثم لا يتوب أبو زيد عن رحلاته تلك إلا بعد تحرير سروج في المقامة الخمسين وهي الأخيرة في الكتاب. وقد عاش الحريري كاتب المقامات في البصرة وبغداد بين عام ألف وأربعة وخمسين وعام ألف ومئة واثنين وعشرين للميلاد، فشهد الحملة الصليبية الأولى، وسروج من أعمال الرها.
والرها أول إمارة صليبية في المشرق، وقد سقطت في يد الفرنجة عام ألف وثمانية وتسعين للميلاد. وعمر الحريري أربع وأربعون سنة، وقد أصبح فاتحها بلدوين البولوني ملكاً على بيت المقدس بعد أخيه جفري. فاختيار الحريري لسروج بلداً لأبي زيد لم يكن صدفة، ولا كان صدفة اختياره اجتياح الفرنجة للبلد، أي الحملة الصليبية الأولى، سبباً لإسقاطه شرعية النظام السياسي في بلاد المسلمين برمتها. فمن اجتاح سروج ملك بيت المقدس وساحل الشام كله. وكانت قد قامت في العراق ثورة كبرى بعد سقوط بيت المقدس عام ألف وتسعة وتسعين للميلاد، قادها قاضي دمشق فخر الإسلام أبو سعد الهروي، تدعو لنصر أهل الشام. وبلغ من غضب الناس على تقاعس ولاتهم عن صد الغزاة حينئذ، أنهم اقتحموا مسجد الخليفة وكسروا منبره. والمنبر عند المسلمين يقوم مقام العرش عند الفرنجة، لا يصبح الخليفة خليفة إلا إذا اعتلاه وأُخذت له عليه البيعة وأُقيمت باسمه عليه الجُمع. ولا شك أن الحريري كان شاهداً على هذه الثورة، بل ربما شارك فيها. ولقد كان في فترة من حياته صاحب خبر الخليفة في بغداد. ولقد هُزم الفرنجة عند حَرَّان على بعد أربعين كيلومتراً فقط من سروج عام ألف ومئة وأربعة، حين حاولوا التمدد نحو الجزيرة الفراتية والعراق على يدي سقمان بن أرتق أمير ماردين من بلاد الجزيرة الفراتية.
وقد كان قبل ذلك أميراً للقدس، وشاركه في هذه المعركة أمير الموصل. وفي عام ألف ومئة وتسعة عشر، قبل وفاة الحريري بثلاث سنوات، هُزم الفرنجة مرة أخرى على يد إيلغازي بن أرتق أخي سقمان، وكان أصبح أمير حلب في وقعة سهل سرمدا، والتي تعرف في التاريخ الأوروبي بوقعة حقل الدم “آغر سانغوينس” لكثرة ما سال فيها من دم الفرنجة، وقُتل فيها أمير أنطاكية روجر الذي من ساليرنو، والذي يسميه العرب السرجال. فلا بد من أن قراء الحريري كانوا فاهمين لمعنى اختياره أن يكون بطل قصصه لاجئاً من سروج التي احتلها الفرنج، عمله السخرية من الحكام، بل والسخرية من الأساس النظري لشرعية حكمهم: اللغة والدين، يعبث باللغة ويرتكب المعاصي، ثم لا يتوب ويتصالح مع المنطق الحاكم لعالمه ذاك إلا بعد طرد الغزاة من بلده في المقامة الخمسين والأخيرة، والمسماة بالمقامة البصرية. بل إن ثمة معنى حتى لاختيار أن تدور أحداث المقامة الأولى في صنعاء مبتدأ العرب، وأن تدور أحداث المقامة الأخيرة التي تتحرر فيها سروج ويعود إليها أبو زيد اللاجئ في البصرة، فالبصرة مدينة الجهاد وباب الفتوحات، ومدينة أسسها العرب في الإسلام فلم يكن لها دين غيره، فارتباطها بالجهاد لتحرير البلاد وطرد الغزاة كان واضحاً بالضرورة لقراء الحريري.
وهو حين يمدح البصرة في ختام كتابه على لسان السروجي العائد لوطنه، يقول: إنها “دِهْليزُ البلَدِ الحَرامِ وقُبالَةُ البابِ والمَقامِ، وأحدُ جَناحَي الدُّنْيا، والمِصْرُ المؤسّسُ على التّقْوى، لمْ يتدنّسْ ببُيوتِ النّيرانِ، ولا طِيفَ فيهِ بالأوْثانِ، ولا سُجِدَ على أديمِهِ لغَيرِ الرَّحْمَنِ، ذو المَشاهِدِ المشْهودَةِ والمساجِدِ المقصودَةِ”، والمَشاهد هنا هي المعارك. وقد أخذ عن الحريري في العصر الحديث كل من رأى أن الخلاص يكمن في مقاومة الغزو لا في تقليده، وأهمله كل من رأى العكس. فكان ممّن فهم جوهرها أحمد فارس الشدياق في القرن التاسع عشر، واستخدم بنيتها في كتابه عن سيرة حياته “الساق على الساق في ما هو الفارياق”، وإبراهيم المويلحي في “حديث عيسى بن هشام” في أول القرن العشرين، وإميل حبيبي في روايته الأشهر “الأحداث الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” في النصف الثاني من القرن العشرين. فالشدياق كان يقاوم ما يراه تغولاً استعمارياً أوروبياً في القرن التاسع عشر، والمويلحي يقاوم الاحتلال البريطاني لمصر، وإميل حبيبي يقاوم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. أقول: لقد كان أجدادنا حتى وهم يلعبون يقيمون الممالك ويهدمونها..
لنتعلم منهم والباقي علينا.