الاستشارة الفلسفية..مشروع إنساني

الكاتبة المصرية رشا مكي

بقلم رشا مكي – موطني نيوز 

قد يكون المجتمع الإنساني اليوم أحوج ما يكون لتبني الاستشارة الفلسفية؛ وذلك بعد ما مرت به الإنسانية من تجارب ومراحل تطورللعقل الإنساني، ومثلما كان لهذا التطور استفادات وأهداف لجعل الإنسان أكثر سعادة؛ أفرزت التجارب عدد من المشكلات نتاجًا للصراعات الاقتصادية والحروب العالمية وتباين الرؤية الثقافية والقيمية للمجتمعات المعاصرة. وبعد محاولات العلم في تحقيق الرفاهية للإنسان ومحاولات علم النفس لجعل الإنسان أكثر جدارة وقدرة على مجابهة الحياة ومتطلبات الفترة المعاصرة؛ مازال الإنسان المعاصر يشعر بالنقص والاغتراب ويواجه أقسى مشكلاته الوجودية طارحًا على عقله ثلاثة أسئلة هم الأكثر أهمية ووضوحًا: من هو حقًا؟! ماذا يريد؟ّ وما الفائدة من الحياة؟! 

ويطل عام 2023 بالمؤتمر المقام في الجمعية الفلسفية المصرية وكان عنوان المؤتمر لهذا العام “الاستشارة الفلسفية والعلاج بالفلسفة”، وجاء توقيت المؤتمر ملائم؛ فهو يتوسط فترة حرجة تمر على الإنسانية؛ بين جائحة مازال المجتمع الإنساني يعاني من أثرها وحرب عالمية نووية منتظرة تلوح في الأفق وأزمة اقتصادية تضرب أنحاء العالم؛ كل هذا يؤكد على أن الإنسانية واجه فترة عصيبة، وأنه حان الوقت لتدخل الفلسفة.

ما هي الاستشارة الفلسفية؟

الاستشارة الفلسفية بصفة عامة تختص بمن يعاني من صعوبات وجودية وهي مرحلة تسبق ظهور أعراض المرض النفسي وهي بذلك لا تعد فقط بديل للعلاج النفسي وإنما يمكننا القول هو إجراء وقائي لحفظ الإنسان من مواجهة عبء المرض النفسي ؛ فمع الاستشارة الفلسفية يكمن دور المعالج في الأخذ بيد ضيف الاستشارة للارتقاء بأفكاره وآرائه من خلال الحوار بعيدًاعن الإملاءات القيمية.

الاستشارة الفلسفية لها جانبان أساسيان هما التمركز حول الإنسان همومه وآماله ورؤاه، والطبيعة الحوارية مع المستشار الفلسفي، بمعنى أن المستشار الفلسفي يساعد (بمنطق الرعاية) على تنمية قدرات الشخص المعالج ويشجعه على أن يفكر ويتحدث دون أن يلعب دور الخبير؛ فمهمته الرئيسة هي الإصغاء وتفهم ما يود الإنسان قوله، ومن ثم كشف تضارب الآراء وتناقضات المشكلة، والسعي لاكتشاف وجهات نظر بديلة.

العناصر الأساسية للاستشارة الفلسفية:

تعتمد الاستشارة الفلسفية على عدد من عناصر أساسية منها:

• التحقيق الفلسفي في طريقة عيش المرء.

• تأويل رؤية العالم.

• كذلك توفر الحد الأدنى من الكفاءة لضيف الاستشارة وقدرته على الفهم والتفكير النقدي.

• إقامة علاقة تعاونية مع المستشار. 

• تطويع الفلسفة الأكاديمية للاستشارة.

• التعليم المباشر الذي يطور مهارات الذات والتفكير الإبداعي. 

• أن تظل أجندة الاستشارة مفتوحة وغير محددة سلفاً أو مرتكزة على منظومة فلسفية واحدة.

أسلوب العلاج

الاستشارة الفلسفية هي “فن محادثة المرضى” ومهمة المستشار أن يساعد ضيف الاستشارة على أن يتحرر من التحيز والمتصور واللاشعوري والمنظور الديستوبي للعالم. وأن يتعلم كيف يتساءل ويفكر ويدرك. ولا يجب أن تُحصر المحادثة بمنهج، نظراً لفردانية كل ضيف وكل موقف. 

ولا يعني عدم الالتزام بمنهج غيابه كلياً، فهناك عدة أشكال وتقنيات للمحادثة منها المقاربة السقراطية التي تعني بالتوليد الفلسفي لأفكار الضيف وتساعده على التأمل ” وكذلك تقنية “تأويل العالم” التي تساعد الضيف على تكوين رؤية عن الحياة وفلسفة لها، إضافة إلى تقنيات أخرى موجهة إلى المشكلة، والغرض الرئيس هو الوصول إلى التوازن المفقود لدى الضيف.

كما أن هناك من المستشارين من يمزج بين التوليد الفلسفي والتحليل النفسي، ومن يعتمد على الفلسفة الإكلينيكية، والعلاج الوجودي، والمعرفي. 

وما يميز المستشار الفلسفي، أنه لا يمارس سلطة “الخبير” مثل المعالج النفسي، ولا يفترض أن مريضه يقع تحت سيطرة المرض، بل يحفزه كي يصبح فاعلاً نشطاً. ويجب على المستشار أن يساعده على التفكير والاستقلال؛ وأن لا ينظر له بوصفه “خبيرًا”.

الفلسفة التطبيقية والاستشارة الفلسفية

كان نيتشه ينعت أفلاطون “بالجبان” لهروبه من الواقع ، كما يصف سقراط “بعدو الحياة” لأنه اعتبرها لحظة محاكمته مرضا عضالا، بل ولا قيمة لها. ففلسفة تلك المرحلة يتلخص مضمونها في الدعوة لمجاورة الأشياء القريبة التيه في عوالم ال (ما وراء) والاقتصار على النظر في أشكال المتعالي والاهتمام بالأشياء البعيدة والبعيدة جدا.

إن الاشتغال بالأشياء القريبة، كالأمور العادية واليومية، يجعل الفلسفة تخالف أبواق الميتافيزيقا، فتفتح بذلك السبل للتساؤل عن الحياة كما نحياها. وكل ذلك لهدف أصيل هو خدمة هذه الحياة، هنا والآن.

الاستشارة الفلسفية هي تجلي واضح لفكرة الفلسفة التطبيقية ولمن لا يعرف عن الفلسفة التطبيقية؛ فهي كما يعرفها الفيلسوف الامريكي “دفيد راسموسن” فرع فلسفي وجانب من جوانب الفلسفة يقوم باستخدام الطرح والمنهج الفلسفيين لمعالجة موضوعات ليست فلسفية بالأساس، وهذه الموضوعات عملية وواقعية، وتمس الحياة اليومية للإنسان المعاصر.

الفلسفة التطبيقية، بهذا المعنى، هي أسلوب للحياة وطريقة للعيش، على شاكلة الطرق التي كان الإغريق يحيونها بفلسفتهم ويعيشونها بتفلسفهم. إنها تلك الفلسفة المفعمة بالحياة، الفلسفة المحايثة التي تتحرر من التقاليد السكولائية للقرون الوسطى وآثارها في فعل التفلسف في الفترة الحديثة. تقلب التقسيم الأفلاطوني للعالم وللأشياء، لتعود لتفكك عمق السطح، عمق الأشياء البسيطة، وهي الجوهرية للحياة وتمنح الإنسان فرص وأشكال الانشغال بالذات والولع بها، تدعوه لأن ينظر في ذاته وحولها.

الاستشارة الفلسفية في زمن الحرب

سادت حالة من السوداوية والتشاؤم المجتمع الإنساني بعد الحرب العالمية الأولى والثانية؛ وأثر ذلك على المخيال الإنساني؛ وظهر ذلك جليًا في الرواية والفن الذي يعبر فيها إنسان المرحلة عن حالة التيه والاغتراب وفقدان الهوية واللاقيمية. وبعد ما مر به المجتمع الإنساني في تلك المرحلة وجد العقل الإنساني نفسه أمام سؤال: ماذا بعد؟! أي ماذا بعد أن فقدت الإنسانية إيمانها بنفسها ومع ظهور الفلسفة الوجودية؛ كان ذلك بمثابة متنفس للعقل البشري للتخلص من أعباء التفكير وليساعد الإنسان على إيجاد إجابة ربما تكون مرضية؛ وإذ بنا أمام فكرة “السوبر مان”، ونحن الآن وبعد مرور 79 عام على آخر حرب عالمية نواجه اليوم ثالثة، يشحذ كل طرف فيها مخالبة للنيل من الآخر.

يوضح روني جيرار في كتاب ” التخلص من كلاوزفيتز” أن البعد التقني الذي ميز المرحلة المعاصرة، من جهة تطوير الأسلحة وابتكار الصواريخ العابرة للقارات والقنبلة النووية، ويستند خاصة إلى التحول الأنثروبولوجي الذي أحدثه نابليون بونابرت، حين أوجد الخدمة العسكرية الإجبارية، التي وضعت حدّا للأرستقراطية، فلم تعد الحرب فنا أو لعبة، بل أصبحت أشبه بالديانة، حيث صار يغلب عليها ما أسماه “اللاتميزية” (Indifférenciation) التي تولد في نظره تفجرا عنيفا لم يعد يخضع للقواعد التقليدية للحرب.

ويكمل جيرار خلافا للحيوانات التي تفلح في حصر عنفها داخل شبكات هيمنة، ينساق البشر إلى محاكاة بعضهم بعضا، في عملية تقليد “ميميتيس”، حيث يصبح التنافس توأميّا: إن تسلّح الآخر تسلّحت، في نوع من الهروب إلى الأمام يقود إلى حدود العنف القصوى، ذلك أن المواجهة بين التوأمين تولّد شعورا بالعداء لا يني يتضخم، فتُمطّط زمنية الحرب وتغيّر بُعدَها: التعامل بالمثل يستفز ويرجئ في الوقت نفسه النزوع إلى الحدود القصوى، والانتصار لن يكون فوريًا، وبما أنه ليس كذلك، فإن الحرب ستكون شاملة، لأن الصدام، بفعل إرجائه، يغدو أكثر عنفا، حتى في حالات الاستعداد للدفاع والصمود أمام هجوم محتمل، وبذلك تختلط الأمور فلا نعود نميز بين الدفاع والهجوم. وتصبح كل استراتيجية دفاعية استفزاز تقليد (mimétique) يضاعف الغلوّ لدى الجانبين.

 قد يكون من الضرورة تفعيل فكرة (الاستشارة الفلسفية)، بل يمكننا القول أننا في أحوج ما يكون لتطبيق الفكرة بشكل موسع؛ ذلك في ظل فترة تنتظر فيها الإنسانية الإبادة الجماعية بين لحظة وثانية. فعلى مدار تجارب كثيرة نجحت الفلسفة في وضع حد للعنف وحجر الأساس للكثير من قيم الإنسان المعاصر

الاستشارة الفلسفة و العقل العربي

ثاني الأسباب التي تأكد على ضرورة تفعيل تجربة الاستشارة الفلسفية في الوطن العربي ما يعانيه الوطن العربي منذ فترة بعيدة وما تكلم عنه عدد كبير من المفكرين العرب الذين عنو بالعقل العربي ولعل أهم ما يعانيه هي فكرة “اغتراب عن الهوية”؛ فنحن الآن نواجه أزمة حقيقية في تحديد من نحن؟! وهل هناك ما يسمى بالهوية العربية؟ هل ثقافتنا هي خليط من ثقافات أخرى؟ أو ربما نحن مجرد حاملين لأسفار السابقين من ثقافات بعيدة عن المنطقة؟! .. وكثير من الأسئلة الأخرى التي تأكد أن هناك مشكلة يجب علينا مواجهتها ومعالجتها.

وأرى أن المسعى الجوهري للفلسفة في عصرنا الحالي يكمن في تقديم الفلسفة دروساً وأمثلة معيارية للعيش الطيب والحياة الخيرة، فضلاً عن تقديمها عزاءات للإنسان تمكنه من مواصلة حياته المتخمة بألوان التراجيديا الوجودية المؤلمة، والتي تشهد قراءات متنامية لم تخفت جذوتها على مر السنوات، كما يمكن الاستفادة من بعض مصنفات تراثنا الفلسفي العربي الذي يزخر بإشراقات فلسفية لامعة لا يمكن تجاوزها من جانب كل عقل فلسفي شغوف.

في النهاية يمكننا القول أن حياتنا أكبر من أن تكون رهينة لمنتجات العلم والتقنية، ولا بد من إضفاء نكهة فلسفية على وجودنا الإنساني منذ سنوات النشأة الباكرة، وكلما نجحنا في تثبيت أركان التساؤل الفلسفي المقترن بدهشة اكتشاف الأسرار الخبيئة في عقولنا ووجودنا الإنساني كان هذا المسعى استثماراً حقيقياً للرأسمال البشري سنشهد نتائجه في سنوات (أو ربما في عقود) مقبلة.

كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!