دولة “المكياج” حين تنكب على البنية التحتية وتهمل تكوين العقلية

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

ليست المأساة الكبرى للدول المتخلفة في فقرها المادي، فهذا عرض يمكن علاجه. المأساة الحقيقية، والجرح الغائر الذي نضع عليه أيدينا اليوم، هو أن هذه الدول لا تُنتج الفقر فحسب، بل تُهندس ببراعة “الفقر الأخلاقي” وتُؤسس لـ “ثقافة النفاق” كآلية وحيدة للنجاة. إنها تُفرّخ مجتمعاً مشوهاً، يُجبر أفراده على ارتداء أقنعة متعددة، ويصبح فيه الفساد ليس استثناءً، بل هو القاعدة الحكمة.

فعندما تصل دولة ما إلى مرحلة يصبح فيها “المسؤول ظالماً”، فاعلم أن هذا ليس مجرد وصف سياسي، بل هو إعلان عن انهيار “العقد الاجتماعي”. وعندما يصبح “الشرطي قمعياً”، فهذا يعني أن جهاز حماية القانون قد تحول إلى أداة لانتهاكه. وعندما يوصف “الطبيب بالمجرم” و”القاضي بالسفاح”، فنحن لا نتحدث عن حالات فردية، بل عن تحول المنظومة بأكملها إلى نقيضها؛ فالصحة أصبحت تجارة بالأرواح، والعدالة أصبحت مقصلة للمظلومين.

هذا الانهيار الممنهج لا يتوقف عند هذا الحد. إنه يتسرب كـ “الغنغرينا” إلى كل شريان حيوي: “إعلام كاذب وبوق” يُصنّع الوعي الزائف، و”تعليم فاشل” يضمن استمرارية الجهل، و”مستثمر سارق” ينهب الثروات تحت حماية القانون، و”موظف مرتشٍ” لا يرى في وظيفته خدمة عامة بل فرصة للكسب غير المشروع. السؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف يمكن لهذه التوليفة السامة أن تبني وطناً؟ الجواب، بكل بساطة، أنها لا تستطيع، وهي لا تريد أصلاً.

هنا، تلجأ “الدولة التجميلية” إلى حيلتها الأثيرة، وهي سياسة “المكياج”. إنها تشبه تلك “الشيخة” التي تُبهرك بزينتها من بعيد، ولكنك تُصدم من حقيقتها إن اقتربت. هذه الدولة تهوى “المشاريع” وتكره “العمليات”. هي تعشق “الحجر” وتزدري “البشر”. ترصد المليارات لبناء “القطارات فائقة السرعة”، و”الملاعب الفخمة”، وتُنير “الواجهات البحرية” بأضواء كاذبة. هذه ليست مشاريع تنموية، بل هي “مشاريع علاقات عامة” موجهة للخارج، ولطبقة محلية صغيرة تعيش في فقاعة معزولة. إنها واجهة براقة تُخفي خلفها واقعاً بائساً.

هذا “اللاتماثل الصارخ” هو الجرح الحقيقي. فالدولة القادرة على بناء قطار فائق السرعة في 14 شهراً، هي نفسها التي تعجز عن توفير “صناديق” لإيواء منكوبي زلزال الحوز بعد أسابيع من الكارثة. الكارثة هنا لم تكشف ضعف الدولة، بل كشفت “أولوياتها”. فالقطار يجلب “هيبة” دولية وعقوداً ضخمة، بينما المنكوبون لا يجلبون سوى “الألم” ومطالبات بالحقوق. يُبنى “القطار السريع”، بينما في قرى ومداشر منسية، لا يزال “الحمار” هو وسيلة النقل الوحيدة لحمل المرضى والموتى، في مشهد يعود بنا إلى العصور الوسطى. يُرصد المال لبناء “المساجد” في كل حي، بينما “المستشفيات” تئن تحت وطأة الإهمال، والمرضى يفترشون الأرض بحثاً عن سرير. هذا ليس إكراماً للدين، بل هو استغلال بشع له كأداة “تخدير” اجتماعي، بينما تُهمل مقاصده العليا من حفظ للنفس والعقل.

هذا النموذج التجميلي يطرد أغلى ما يملك “الكفاءات”. فالشاب المتعلم الذي يرى “أساس بناء الشعب مهدم”، يدرك أن لا مكان له في هذه المسرحية العبثية. يُهمل ويُدفع إلى “قوارب الموت” ليموت في البحر، أو يُهاجر ليخدم أوطاناً أخرى تقدّر علمه. وفي المقابل، يتم استيراد عمالة غير ماهرة من دول أخرى، ليس لسد حاجة اقتصادية حقيقية، بل غالباً لكسر مطالب العمالة المحلية أو لصفقات سياسية، دون أي خطط للإدماج، مما يخلق قنابل اجتماعية موقوتة.

لهذا فإن الحل في اعتقادي المتواضع، لا يمكن أن يكون تجميلياً هو الآخر. نحن لا نحتاج إلى “مكياج” أفضل، بل نحتاج إلى “جراحة عاجلة” للأساس المهدم. الحل يكمن في قلب المعادلة.

أولاً، عبر عقد اجتماعي جديد يقدس الإنسان، ويتوقف عن التعامل مع المواطن كـ “رعية” أو “مشكلة أمنية”، ويبدأ في التعامل معه كـ “مصدر للشرعية” و”غاية للتنمية”. هذا يتطلب “سيادة القانون” الفعلية، لا الانتقائية، وتفعيل مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” بصرامة تبدأ من القمة قبل القاعدة.

ثانياً، يجب الاستثمار في “البنية التحتية البشرية”. قبل القطارات والملاعب، يجب إعادة توجيه الموارد بشكل جذري نحو “التعليم” و”الصحة”. نحتاج إلى بناء “الإنسان” قبل بناء “الجدران”. هذا يعني رد الاعتبار للمدرس والطبيب، وضمان جودة الخدمات في أقصى قرية كما في أكبر مدينة. لأن الأساس الحقيقي لأي أمة هو في عقول أبنائها وصحة أبدانهم.

ثالثاً، لا بد من تفكيك اقتصاد الريع وبناء اقتصاد الإنتاج. فالفساد المتجذر هو النتيجة الطبيعية لاقتصاد الريع والامتيازات. والحل هو “الشفافية” المطلقة، ورقمنة الإدارة، وفتح السوق للمنافسة الحقيقية، وتمكين “الكفاءات” الوطنية من قيادة الاقتصاد، بدلاً من إسناده لشبكات المصالح الضيقة والولاءات الحزبية الضيقة.

وأخيراً، يتطلب الأمر مصالحة وطنية حقيقية مع “الكفاءات” المهاجرة. يجب خلق آليات فعالة، لا بيروقراطية، لإعادة دمج هذه العقول، ليس فقط كـ “محفظة” لإرسال العملة الصعبة، بل كـ “قوة” للمشاركة في البناء واتخاذ القرار، ومنحهم الضمانات الكافية لحمايتهم من المنظومة القديمة التي دفعتهم للهرب.

إن الدولة التي تعتمد على “المكياج” هي دولة فاشلة في جوهرها، وإن بدت ناجحة في مظهرها. لقد انتهى وقت التجميل، وحان وقت “الجراحة”. إما أن نختار مواجهة الحقيقة، وهدم هذا الأساس الفاسد لبناء أساس سليم قوامه العدل والكرامة والعلم والتطبيب، أو سنبقى في هذه الدوامة، نبني قطارات سريعة تقودنا جميعاً نحو الهاوية.

One thought on “دولة “المكياج” حين تنكب على البنية التحتية وتهمل تكوين العقلية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!