
المصطفى الجوي – موطني نيوز
يُعد ديوان “كنت وحدي” للشاعر منير الدائري، الذي صدر عن دار أثر للنشر، تجربة شعرية عميقة تتجاوز حدود النص لتلامس شغاف الروح الإنسانية في أقصى حالات توحدها وعزلتها. إنه ليس مجرد مجموعة قصائد، بل هو رحلة استبطانية شاقة ومضيئة في آن واحد، يسعى فيها الشاعر إلى فك شفرات الوجود من خلال عدسة الذات المنفردة. وقد وصفه الأستاذ الناقد عبد الرحيم التدلاوي في تقديمه بأنه صوت شعري فتي، يحمل بنية داخلية متماسكة تستحق التأمل.
ينطلق الديوان من عتبته العنوانية “كنت وحدي” ليؤسس لثيمة العزلة كمنطلق إبداعي وليس كحالة سلبية، إذ يراها الشاعر شرطاً ضرورياً للرؤيا والبحث عن الحقيقة. الشاعر، القادم من عالم السرد، يستخدم اللغة بمهارة فائقة ليخلق عالماً موازياً، حيث تصبح القصيدة ليست نصاً، بل كائن من وعي ونور. تتجلى هذه العزلة في مشهد المدينة الماطرة ضمن قصيدة (تحت أمطار الليل)، حيث يتحول المطر من مجرد ظاهرة طبيعية إلى ممحاة للحدود بين الواقع والخيال، ووسيط يذيب الحدود بين الواقع والخيال، مما يسمح للشاعر بالتوغل في أعماق الذات والآخرين. إنها لحظة نعيش في أحلام مؤقتة تحت غطاء المطر، حيث الوحدة هي القاسم المشترك بين الأرواح، وتغدو المدينة مسرحاً يتماهى فيه الشاعر مع الماشين بجانبه، كل في عالمه الخاص.
يُبنى الديوان على ثنائيات وجودية حادة، أبرزها ثنائية الأمل والألم، التي تشكل جدلية الوجود الإنساني. يرى الشاعر أن الشعر هو رسالة الشاعر الإنسان، وأن القصيدة مشبعة بالتوتر الإنساني الأبدي بين الذاكرة التي تثقل والنسيان الذي يخون، وبين الأمل الذي يلمع والانكسار الذي يتربص. وفي قصيدة (شعلة الشوق والألم)، يقدم الشاعر رؤية للولادة الجديدة من رحم المعاناة : (نولد من جديد، على عتبات الليل). الألم هنا ليس نهاية، بل هو مصفاة للروح، وشرارة نزرع الأمل، ونرسم بدموعنا الفرح المنتظر. هذه الجدلية تصل إلى ذروتها في قصيدة (نبض الأمل وسط عتمة الحياة)، التي تتحول إلى قصة رمزية عن شاب يبحث عن عمل في مدينة تعاني، ليجد أن الأمل يبقى نوراً في الطريق، وأن قوة التعاون والإيمان هي ما تُحيي المدينة، في تأكيد على أن الليل ليس سوى مسرح للكشف الداخلي الذي يعقبه النور.
يتميز أسلوب منير الدائري بالرقي والعمق الفلسفي، معتمداً على لغة شفافة ومكثفة في آن واحد. يصف الشاعر فعل الكتابة بأنه ليست الكتابة عابرة حلم…إنها يقظة الروح، بل هي أنفاس إضاءة من الداخل. هذا التعبير يرفع الشعر من مجرد صنعة لغوية إلى فعل وجودي حيوي يشبه التنفس. وتتسم الصور الشعرية بـ الرمزية العالية، حيث يتحول الرمل في قصيدة (خطوات على الرمل) إلى رمز للذاكرة التي تُمحى وتبقى في آن واحد، في إشارة إلى الصراع الداخلي بين الثبات والزوال. كما أن قصيدة (حكاية همس) تمجد قوة الصمت، حيث الكلمات في صمتها قوة…تخرق القلوب وتحطم القيود، في دعوة واضحة إلى التفكير العميق بدلاً من ضجيج العالم.
في النهاية، يمثل ديوان “كنت وحدي” دعوة مفتوحة للقارئ للغوص في أعماق ذاته. إنه ديوان يرفض أن يكون خريطة طريق ثابتة، بل هو بوصلة تشير إلى الداخل. فالشاعر لا يطلب المواساة، بل يبحث عن حقيقة “ترتجف”، ويقدم نصوصاً تحمل بنية داخلية متماسكة، تجعل القارئ يجد في عزلة الشاعر صدى لعزلته الخاصة، في المكان الذي لا أجد فيه سواك. إن هذا الديوان هو شهادة على أن الشعر الحقيقي يولد من رحم التجربة الحية والصادقة، وهو ما يمنح نصوص منير الدائري تلك القوة الدافعة والعمق الذي يجعله صوتاً شعرياً يستحق الاستماع إليه والتأمل في مضامينه الفلسفية والوجودية.
وإذ أختتم هذه القراءة، فإنني أتوجه إلى الشاعر منير الدائري، صاحب هذا النبض الشعري العميق، لأقول : لقد أثبت ديوان “كنت وحدي” أن العزلة لم تكن لك سوى خلوة إبداعية، وأن وحدتك كانت محضناً لولادة رؤى تتجاوز ضجيج العالم. فلتظل ريشتك، يا منير، هي بوصلة الروح التي لا تخطئ، ولتستمر في نسج خيوط النور من عتمة الليل، فما زال الطريق متسعاً لخطواتك الواثقة.
إن صوتك الشعري، الفتي والعميق، هو إضافة حقيقية للمشهد الأدبي، فسر على بركة الشعر، ولا تلتفت إلا إلى نداء الحقيقة الذي يتردد في أعماق قصائدك. فكل قارئ يجد في ديوانك صدى لوحدته، هو شاهد على أنك لم تكن وحدك يوماً، بل كنت في قلب الوجود.