
المصطفى الجوي – موطني نيوز
في المسرح العظيم للسياسة، حيث تتصارع إرادات الحكام والمحكومين، تبرز أسئلة جوهرية، كيف تُحكم الأمم؟ وما هي الخيوط الخفية التي تتحكم في مصائرها؟ بعيداً عن الخطابات الرنّانة عن “العقد الاجتماعي” و”الإرادة العامة”، يكمن واقع أكثر قتامة وأكثر بدائية. إنه واقع يعتمد على هندسة الروح الجماعية للأمة، ليس ببنائها، بل بتحطيمها. فالفرضية التي تنطلق منها كثير من الأنظمة الاستبدادية ليست معقدة، بل هي ببساطة أمة متعلمة وصحية وواثقة من نفسها، أمة يصعب حكمها، بل ويستحال استعبادها.
من هذا المنطلق، تتشكل أداتا السيطرة الرئيسيتان، ليس كخيارين منفصلين، بل كوجهين لعملة واحدة، التخويف والإحباط. هما السلاحان اللذان تحوِّل بهما النخب الحاكمة الطاقات البشرية الهائلة من قوة تغييرية محتملة إلى كتلة خاملة، سهلة القيادة، بل وسهلة الذبح كالقطيع.
فالتخويف هو السلاح المباشر، الصارخ، الذي لا يخفي نفسه. إنه لغة السجان والزنزانة، لغة البندقية والملف الجرمي. لكن التخويف المعاصر لم يعد يقتصر على منتصف الليل، بل أصبح علنياً في وضح النهار. إنه تخويف منظم وممنهج، يهدف إلى ترسيخ فكرة واحدة في اللاوعي المجتمعي، الثمن باهظ. يبدأ هذا التخويف بخلق “الآخر” المرعب، سواء كان إرهابياً أو عميلاً أو مفسداً. أي صوت معارض يصبح تلقائياً منتمياً إلى هذا الصنف، ليُسقط عنه شرعية الإنسانية أولاً، ثم يُسقط عنه حق الأمان. تمتلئ وسائل الإعلام بصورة العدو الداخلي، ليس لملاحقته فحسب، بل لتحذير كل من يفكر في السير على دربه. تصبح السجون ليست مكاناً للمجرمين فقط، بل هي عرضٌ رهيب لكل طموح سياسي، لكل فكرة مغايرة. وهكذا، يتحول المواطن من كائن فاعل إلى حارس لنفسه. يصبح الرقيب الذاتي هو أقوى رقابة. إنه طاغية صغير يجلس على كتف كل فرد، يهمس في أذنه باستمرار “اصمت، لا تثر المشاكل، انظر إلى ما حدث لفلان.” عند هذه النقطة، لم تعد الدولة تحتاج إلى سجن ملايين الناس، فقد سجنتهم في عقولهم. لقد نجحت آلة التخويف في تحويل المجتمع إلى ثكنة كبيرة، يحرس فيها كل فرد قيده الخاص بخوف ورهبة.
لكن التخويف وحده لا يكفي. فالخوف قد يولد الغضب، والغضب المكبوت قد ينفجر. هنا تأتي البراعة في استخدام السلاح الثاني، الأكثر دهاءً والأعمق أثراً، سلاح الإحباط. إذا كان التخويف يهاجم جسم المجتمع، فإن الإحباط يهاجم روحه. إنه الوباء الخفي الذي يفتت الإرادة من الداخل. تعمل آلة الإحباط بشن حرب على ثلاث جبهات :
فأولاً، على جبهة التعليم، يتم تفريغ التعليم من مضمونه النقدي والإبداعي. يتحول إلى عملية حشو للعقول بمعلومات جافة، وتدريب على الطاعة والامتثال بدلاً من التساؤل والتحليل. الهدف ليس إنشاء جيل من المفكرين، بل إنشاء جيل من الموظفين والتابعين. شعب لا يعرف كيف يفكر، شعب لا يستطيع أن يحكم نفسه، وبالتالي يكون سهلاً لحكم الآخرين له.
وثانياً، على جبهة الصحة، يتم تدمير النظام الصحي عمداً، أو تحويله إلى سلعة فاخرة. حين ينشغل الإنسان في معركة للحصول على دواء لأبنائه و لا يجده، أو في توفير ثمن عملية جراحية لوالديه، تنحسر هموم الحرية والكرامة. الجسد المتألم لا طاقة له على حلم التغيير. الإرهاق اليومي في مواجهة الحياة يصبح الحاجز الأقوى أمام أي عمل سياسي.
وثالثاً، على جبهة الثقة في النفس، تشن حملة منهجية على ثقة الشعب بنفسه. تُروَّج ثقافة الهزيمة كمثال “أنتم لستم أهلاً للديمقراطية”، “مصيركم محتوم”، “كل المحاولات ستفشل”، “جيل فاشل”. تُختزل النماذج الناجحة إلى “حظوظ” أو “فساد”، ويُصور النشطاء على أنهم حالمون ساذجون. الهدف هو قتل الأمل نفسه، لأن اليائس لا يحلم، والحالم ليس يائساً.
وبالتالي، عندما يلتقي التخويف بالإحباط، تخلق الآلة مواطناً مثالياً من وجهة نظر المستبد، إنسان خائف على رزقه، منهك بمعاركه اليومية، مقتنع بعدم جدوى أي محاولة للتغيير، ويشكر السلطة على “الأمن” تحت شعار : “الله يخلي لينا سي الحموشي” الذي أصبح في مخ المغاربة أنه هو من يوفره له، وهو الأمن الذي سلبتْه إياه أولاً. إذن، ما هو الحل؟ كيف تُكسر هذه الدائرة الجهنمية؟ الجواب لا يكمن في مواجهة الوجهين بشكل منفصل، بل في فهم العلاقة الجدلية بينهما. فالمعركة الحقيقية هي معركة استعادة الإنسان. تعليم قوي يحرر العقل لا أن يسجنه، نظام صحي فعال يحمي الكرامة الإنسانية ولا أن يهدرها، وثقافة تعيد بناء الثقة بالنفس وبقدرة المجتمع على صنع مصيره.
لأن أعظم ثورة هي تلك التي تحدث في عقل كل فرد. ثورة يرفض فيها أن يخاف إلا من الله، وأن ييأس من روح الله. ثورة يستعيد فيها وعيه بأن قوته لا تأتي من خلال النظام الحاكم، بل من خلال وحدته وإرادته وثقته بعدالة قضيته. في النهاية، وكما هو متعارف عليه فالتاريخ يُصنع من قبل أولئك الذين يرفضون أن يكونوا أدوات في مسرح السيطرة أو شاة في قطيع. إنه يصنعه المتعلمون الذين يحولون المعرفة إلى قوة، والأصحاء الذين تفيض طاقاتهم للعمل، والواثقون الذين لا ترهبهم عصا التخويف ولا تثنيهم شائعات الإحباط. هؤلاء هم من يكتبون الفصل التالي من تاريخ أمتهم، فصل التحرر من آخر السلالات استبداداً، سلالة الخوف واليأس و التهميش.