
المصطفى الجوي – موطني نيوز
في تاريخ الأمم، هناك لحظات فارقة تختار فيها السلطة إما أن تبني جسور الثقة مع شعوبها عبر الانفتاح والشفافية، أو أن تحفر خنادق حول امتيازاتها بقوانين قمعية ومراسيم جائرة. ويبدو أن مشروع القانون التنظيمي رقم 53.25، القاضي بتغيير وتتميم القانون التنظيمي لمجلس النواب، قد اختار الطريق الثاني بامتياز، ليقدم لنا فصلاً جديداً من فصول “الباطل الذي يراد به حق”، وهو في جوهره ليس إلا هندسة متقنة للركود السياسي، ورصاصة رحمة تطلق على ما تبقى من مصداقية للعملية الانتخابية برمتها. إننا أمام نص قانوني لا يهدف إلى تنظيم المشهد، بل إلى تجميده؛ لا يسعى لحماية الديمقراطية، بل لحماية “النتائج المعلومة مسبقاً” من أي مساءلة أو تشكيك. إنه باختصار، الإعلان الرسمي عن موت السياسة في فضاء النقاش العام، واستبدالها بصمت المقابر الإجباري.
يأتي هذا المشروع متدثراً بعباءة الحداثة ومحاربة التضليل التكنولوجي، مستهدفاً، كما يدعي، “الأخبار الزائفة” و”الوقائع الكاذبة” التي قد تمس بالناخبين أو تشكك في نزاهة الانتخابات. ولأول مرة في التشريع المغربي بل وفي العالم، يتم ذكر أدوات الذكاء الاصطناعي والمنصات الرقمية. هذا الغطاء البراق، الذي يبدو ظاهرياً أنه يحمي مصداقية الانتخابات ويعزز الثقة في المؤسسات، هو في الحقيقة قناع يخفي وجهاً قبيحاً لتكميم الأفواه. فالمشرّع هنا لا يخشى التكنولوجيا، بل يخشى الحقيقة؛ لا يخاف من “الديب فيك”، بل يخاف من “النقد العميق” الذي يوجهه المواطن والصحفي والناشط السياسي والحقوقي. إن استخدام مصطلحات رنانة كـ “التضليل التكنولوجي” ليس إلا حصان طروادة لتمرير أخطر تراجع حقوقي يطال حرية التعبير، وهو تجريم “الرأي” وتحويله إلى “جريمة”.
لنكن واضحين، العقوبات المقترحة ليست مزحة عابرة. نحن نتحدث عن الحبس سالب للحرية من سنتين إلى خمس سنوات وهي مدد ليست بالسهلة فهي دفن على قيد الحياة، وغرامات مالية تصل إلى مئة ألف درهم. هذه عقوبات توازي جرائم جنائية خطيرة قد ترقى إلى مستوى الارهاب و القتل الغير العمد بل واشدها، لا آراء سياسية. وعندما يتم تسليط هذا السيف، سيف العقوبات الزجرية الثقيلة، على مصطلح “فضفاض” وعام ومطاطي كـ “التشكيك في نزاهة الانتخابات”، فنحن لا نتحدث عن تنظيم، بل عن ترهيب. ماذا يعني “التشكيك”؟ إذا نشر صحفي تحقيقاً عن خروقات في مكتب تصويت، هل هو “يشكك”؟ إذا صرح مرشح خاسر بوجود “اختلالات” وقدم طعناً، هل يصبح مجرماً مهدداً بالسجن؟ إذا قام مواطن بتصوير فيديو يظهر تزويراً محتملاً وبثه على مواقع التواصل، هل سيقضي خمس سنوات خلف القضبان بتهمة “زعزعة الثقة” في الانتخابات؟ إن هذه الضبابية ليست خطأً تشريعياً، بل هي مقصودة بعناية فائقة. إنها مصممة لتكون شبكة واسعة يمكنها اصطياد أي صوت معارض، أي تحليل ناقد، أي تساؤل مشروع.
إن المدافعين عن هذا النص، الذين يزعمون أنه يحمي “الثقة في المؤسسات”، يتجاهلون عمداً أن الثقة لا تبنى بالقوانين السالبة للحرية، بل تبنى بالنزاهة الفعلية. الثقة لا تفرض بالتهديد بالسجن، بل تكتسب بالشفافية المطلقة والقبول بالمساءلة. ما يفعله هذا القانون هو العكس تماماً؛ إنه يرسل رسالة واضحة لكل من سولت له نفسه مراقبة العملية الانتخابية: “اصمتوا وإلا فالسجن مصيركم”. إنه يمنح حصانة مطلقة للفساد الانتخابي، ويشرعن التزوير عبر تجريم كاشفيه. بدلاً من معالجة أمراض العملية الانتخابية من جذورها، تماما كما فعلوا مع الجمعيات الحقوقية وقانون الإثراء غير المشروع، يختار المشرّع أن يكسر ميزان الحرارة الذي يقيس الحمى. إنه قانون لحماية “العملية” من “الشعب”، وليس لحماية “الشعب” في “العملية”.
وهنا نصل إلى جوهر المأساة السياسية التي يؤسس لها هذا القانون. إنه يعطينا إشارات قوية، بل دامغة، بأن المشهد السياسي الحالي لن يتغير. إن النخب الحاضرة اليوم، تلك الوجوه التي ألِفها المغاربة حد الملل، هي نفسها من ستكون في الواجهة غداً. وحكومة أخنوش هي من ستتصدر الانتخابات أحب من أحب وكره من كره “ولي دوا ياكل الدوا” فسجن عكاشة ينتظر المشككين. هذا القانون هو الضمانة القانونية لاستمرارها. إنه يغلق الباب أمام أي مفاجآت قد تأتي بها صناديق الاقتراع لانهم على يقين أن جيل Z سيقلب الموازين على منظمي موازين، لأنه يمنع من الأساس طرح السؤال حول ما إذا كانت هذه الصناديق قد مُلئت بشكل نزيه أم لا. إنه يقتل المنافسة قبل أن تبدأ، لأنه يحول أي نقد للخروقات من أداة سياسية مشروعة إلى دليل إدانة جنائي. إننا أمام “هندسة للركود” تضمن بقاء “اللاعبين” أنفسهم في الملعب، مع بعض “الروتوشات” ومساحيق التجميل التمويهية، كتبديل أسماء أو شعارات، بينما يبقى الجوهر الفاسد للنظام الانتخابي محمياً بقوة القانون.
وعندما يصبح “التشكيك” جريمة في البلاد ويحاكم بأشد القوانين وأقصاها، فهذا يعني أن “اليقين” الذي تريده السلطة هو اليقين الوحيد المسموح به. هذا القانون هو إعلان صريح بأن الدولة لا تثق في نضج مواطنيها للتمييز بين النقد المشروع والخبر الزائف بدليل ما عرف الشارع المغربي مؤخرا، وتقرر أن تكون هي الوصي المطلق على الحقيقة. والأخطر، أنه يمنح السلطة التنفيذية والقضائية أداة فتاكة لتصفية الحسابات السياسية تماما كما وقع في اطار قانون تضارب المصالح. تخيلوا معركة انتخابية حامية الوطيس، حيث يقوم أحد الأطراف باتهام الآخر بالتزوير؛ بدلاً من أن يكون القضاء الانتخابي هو الفيصل، سيصبح القضاء الجنائي هو السياف. سيتحول الخصوم السياسيون إلى مجرمين، وتتحول المنابر الإعلامية إلى قاعات محاكم.
إن الحقوقيين الذين يطالبون بـ “توضيح معايير العقوبة” يطرقون الباب الخطأ. المشكلة ليست في “المعايير”، المشكلة في “المبدأ” نفسه. لا يمكن “توضيح” مبدأ تجريم حرية التعبير، بل يجب إلغاؤه. إن الموازنة بين حماية العملية الانتخابية وحرية التعبير لا يمكن أن تكون على حساب الحرية. إن الديمقراطية الحقيقية هي تلك التي تحتمل النقد اللاذع، بل وحتى “التشكيك” في أسسها إسمحوا لي فنحن لا نشكك في الدين الإسلامي. وحتى المشككين في الدين لا يعاقبون بهذه القسوة في القانون الجنائي المغربي وخاصة الفصل 267!!!، لأنها واثقة من آلياتها لتصحيح نفسها. أما الديمقراطيات الهشة، المزيفة كالتي نعيشها اليوم، فهي التي تحتاج إلى قوانين قمعية لتحمي زيفها من الانكشاف.
وبالتالي، إن مشروع القانون 53.25 ليس مجرد نص تشريعي عابر، بل هو بيان سياسي محض يعكس خوفاً عميقاً من التغيير الذي يحمله جيل Z، ورغبة جامحة في استدامة الوضع الراهن. إنه محاولة بائسة لفرض “نزاهة” مزعومة بالقوة الجبرية، وهو اعتراف ضمني بأن آليات الفساد والاختلالات أقوى من أن يتم مواجهتها بالشفافية، فلجأوا إلى تجريم من يتحدث عنها. إنه قانون يشرعن الفساد عبر إسكات شهود العيان. وإذا مر هذا القانون، فإنه يدشن عصراً جديداً من القمع السياسي المقنن، حيث تصبح الانتخابات مجرد مسرحية هزلية معروفة النتائج، ويصبح المواطن المغربي مطالباً بالتصفيق لجلاده، أو مواجهة السجن إن هو همس بكلمة “شك”. إنه القانون الذي سيحول المشهد السياسي المغربي إلى مقبرة كبيرة، لا يُسمع فيها سوى صدى صوت السلطة، وهو ما نسميه “صمت المقابر”. فهنيئا لحكومتنا بنجاحها الباهر في انتخابات 2026، فقد وعدوا وأوفوا وصدقوا عندما قال رشيد الطالبي العلمي (مسمار الأحرار) : “فرحان أسيدي الرئيس بأنه من الآن ربحنا 2026”.
“الفاهم يفهم، ولي ما فهم الله يفتح عليه”