
المصطفى الجوي – موطني نيوز
في أعماق كل إنسان، يكمن جوعٌ أصيل، أقدم من جوع البطن وأعمق من ظمأ الروح؛ إنه الجوع إلى الطمأنينة. أن يعيش المرء آمنًا على كرامته قبل لقمته، مطمئنًا على حياته ومستقبل أسرته، واثقًا من أن ظهره محميٌّ بسياج العدل وهيبة الدولة. هذا هو العقد الاجتماعي الأول، والوعد الذي تقطعه الأوطان لمواطنيها، الكرامة مقابل الولاء، والأمان مقابل الانتماء. ولكن، ماذا يحدث حين يُنقض هذا العقد؟ ماذا يحدث حين يصبح الأمان سلعة حصرية، والكرامة امتيازًا لا يناله إلا قلة، بينما تُترك الأغلبية العظمى عارية في العراء، تواجه مصيرها بقلق لا ينقطع؟
الحقيقة الصادمة، التي نهمس بها في مجالسنا الخاصة ونخشى إعلانها في العلن، هي أن أوطاننا لم تعد مُلكًا للجميع. لقد تحولت إلى قلعة حصينة، جدرانها سميكة وأبوابها موصدة، لا يدخلها ولا ينعم بدفئها إلا من يحمل مفاتيحها. أما البقية، فهم مجرد قاطنين في الساحات الخارجية، مسموح لهم بالوجود طالما لا يزعجون أسياد القلعة، ويعيشون في حالة دائمة من الاستجداء والترقب.
لقد انقسم المجتمع المغربي، لا إلى طبقات اقتصادية فحسب، ولا إلى سرعتين. بل إلى فئتين وجوديتين، “الآمنون” و”المهددون”. والمفارقة المأساوية أن “المهددين” ليسوا عتاة المجرمين أو الخونة، بل هم، في الغالب، النسيج الحقيقي للمجتمع. هم العلماء الذين ينيرون العقول، والأطباء الذين يداوون الجراح، والمدرسون الذين يبنون الأجيال والصحافيون الذين ينقلون الحقيقة وينتقدون الفساد. هم “عامة الناس” الذين يُطلب منهم كل شيء، أن يعملوا، أن ينتجوا، أن يصبروا، أن ينتخبوا، وأن يهتفوا للوطن. وفي المقابل، لا يُمنحون أي شيء، ولا حتى الضمانة الأساسية بأنهم لن يُسحقوا بلا سبب، ولن تُداس كرامتهم في أي لحظة عابرة كما وقع بالأمس القريب إبان إحتجاجات “جيل Z” حيث لم تفرق الآلة الأمنية بين زيد وعمر.
فلننظر بجرأة إلى داخل أسوار تلك القلعة، لنسأل : من هم “الآمنون”؟ من هؤلاء الذين مُنحوا صك الأمان المطلق “إلى يوم الدين”؟ إنهم ليسوا أفرادًا، بل هم أعضاء في منظومات ثلاث، تشكل فيما بينها تحالفًا مقدسًا، أو لنقل، سرطانًا ثلاثي الأضلاع يلتهم جسد الوطن.
الضلع الأول هو “منظومة السيادة”. هي القوة الغاشمة، والقبضة التي لا ترتخي. هي الحكومة بأجهزتها التنفيذية، وهي أمن الدولة والجيش والمخابرات بجميع أنواعها. هذه المنظومة هي السور الخارجي للقلعة؛ هي من يقرر من يدخل ومن يبقى خارجًا. الأمان لديها يعني الطاعة، والانتماء إليها يعني الحصانة الفورية. من يرتدي زيها أو يحمل بطاقتها، يكتسب فورًا حقًا إلهيًا في الأمان، حقًا يعلو على حقوق سائر البشر.
والضلع الثاني هو “منظومة العدالة”. ويا لها من تسمية ساخرة! القضاء، النيابة العامة، والشرطة. هذه هي المنظومة التي خُلقت أصلًا لتكون ملاذ المظلومين وسيف الضعفاء. كان يُفترض بها أن تكون الضمير المستيقظ للمجتمع، والميزان الذي لا يخطئ. لكن في واقعنا المرير، تحولت هذه المنظومة، في أجزاء كثيرة منها، من حامية للحق إلى حامية للمنظومة الأولى. أصبحت هي الدرع القانوني الذي يبرر القوة، والسيف المسلط على رقاب من هم خارج السور. هي التي تضمن أن القوانين تُطبق على الضعفاء بحذافيرها، وتُطوَى وتُلوى لتناسب الأقوياء.
أما الضلع الثالث، فهو الأقوى والأدهى على الإطلاق، “منظومة الثروة”. هذا هو المحرك الحقيقي للقلعة. في الحقيقة، هذه المنظومة الثالثة، بثرائها الفاحش ونفوذها اللامحدود، هي التي تتعامل مع المنظومتين الأوليين وتكاد تشتريهما. المال هو الذي يشتري الولاءات، وهو الذي يشتري الحماية، وهو الذي يشتري العدالة. الثروة هنا لم تعد مجرد رفاهية اقتصادية، بل تحولت إلى أداة سيادية. أصحاب المليارات ليسوا مجرد رجال أعمال؛ إنهم حكام الظل، وهم من يمولون القلعة ويضمنون ولاء حراسها.
هذه هي المنظومات الثلاث. التحالف الحديدي بين السلطة والعدالة والثروة. ومن ينتمي إلى واحدة منها، فهو آمن. هو الوحيد الذي ينام ليله مطمئنًا، لا يخشى أن يُقتحم بيته، أو يُلفق له تهمة، أو يُسلب ماله، أو تُهان كرامته. هو الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن “يفسد عليه حياته”. إنهم “الفئات الآمنة”، المحصنون ضد تقلبات الزمن وغدر الأيام، لأنهم هم الزمن وهم الأيام.
وماذا عنا نحن؟ نحن الذين لسنا جزءًا من هذا التحالف؟ ماذا عن الطبيب الذي يقضي عمره في خدمة الناس، والمدرس الذي يحترق كالشمعة، والعالم الذي يفني حياته في البحث والصحفي الذي يتعرض للإدلال و الاهانة وفي بعض الاوقات الى الاعتداء والإعتقال؟ نحن، بكل بساطة، “لا قيمة لنا” في هذا الميزان. نحن مجرد أرقام في تعداد، وقود للمعركة، وأصوات في الانتخابات. نحن معرضون في أية لحظة لأن نُدهس، أن نُهان، أن “نؤخذ بالجزمة” – كما يقول التعبير الشعبي الفج والصادق لذا إخواننا المصرين – لأقل سبب أو بلا سبب على الإطلاق.
هنا يكمن الجرح الأعمق. ليست المشكلة في الفقر، ولا في سوء الخدمات، ولا حتى في الفساد المالي… المشكلة الحقيقية هي انعدام القيمة الإنسانية لمن هم خارج القلعة. لقد أصبح الوطن، الذي من المفترض أن يكون ملكًا لنا جميعًا، “وطنهم هم”. أصبح ملكية خاصة لتلك المنظومات الثلاث المتشابكة. ونحن؟ لقد أصبحنا “لاجئين عندهم”. نعم، لاجئون في أوطاننا. نعيش على هامش حياتهم، نلتمس رضاهم، ونتجنب غضبهم. وبصريح العبارة لهم الوطن ولنا الوطنية، فهل سبق لك أن سمعت بثري مناضل أو يقول لك على سبيل الدعابة أنا مناضل فحتى النشيد الوطني لا يحفظونه.
لقد تحول المواطن إلى غريب، وتحول الانتماء إلى تهمة، وتحولت الكرامة إلى حلم بعيد المنال. أن تكون عالمًا أو طبيبًا أو مدرسًا أو صحفيا، فهذا لا يمنحك أي حصانة. الحصانة الوحيدة هي أن تكون جزءًا من اللعبة، خادمًا في القلعة، أو ضيفًا على مائدة أسيادها. هذه هي الحقيقة العارية، وهذا هو الموت البطيء للضمير الوطني. حين يصبح الوطن قلعة تحمي سارقيها وحراسها، وتطرد بناتها، فاعلم أننا لم نعد في دولة، بل في غابة أعيد ترتيبها بقوانين زائفة.