حين يحكم السفهاء ويتغلغلون في شرايين الدولة

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

بسم الله الرحمن الرحيم (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَـٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ) (13 البقرة﴾.

قد لا يكون مقالي هذا مألوفاً في عصرٍ يقدّس “المساواة” في كل شيء، عصرٍ يرى في “الجدارة” المجرّدة من أي سياق آخر، القيمةَ المطلقة والوحيدة لارتقاء المناصب. ولكن، دعونا نخلع عن أعيننا غشاوة الشعارات الرنّانة للحظة، وننظر إلى الواقع بعينٍ فاحصة، عينٍ جرّبتها الحياة وصقلتها التجارب، لندرك حقيقة بسيطة ومرّة، ليست كل نفسٍ بشرية مؤهلة لحمل الأمانة، وليست كل يدٍ قادرة على إمساك المطرقة أو المشرط أو السيف أو القلم. إن السلطة، في جوهرها، ليست غايةً بل وسيلة، وهي ليست حقاً للجميع، بل هي عبءٌ ثقيل، مِصفاةٌ هائلة لا تُفسِد صاحبها، بل تكشف معدنه الأصيل. إنها تُظهر “الشريف” في شرفه و”الوضيع” في وضاعته. ومن هنا، من هذا المنعطف الحاد في فهمنا لطبيعة الحكم والإدارة، أجدني أوافق، بل أؤكد بقناعةٍ راسخة، أن كليات الطب والحقوق والشرطة والتعليم والقيادات العليا للجيش، يجب أن تكون محجوزة، بل مُصانة، لأبناء العوائل الكريمة. وقبل أن تثور ثائرة المدافعين عن “تكافؤ الفرص”، دعوني أوضح المقصود من كلامي. إن “العوائل الكريمة” ليست بالضرورة العوائل الأغنى أو الأعلى نسباً بالمعنى الطبقي البائد، بل هي تلك البيوت التي ورثت “الشرف” كابراً عن كابر، التي يفهم أبناؤها معنى “العيب” بالفطرة قبل القانون، والتي تربّت على أن السلطة مسؤولية وليست مغنماً، وأن خدمة الناس غاية وليست وسيلة للامتلاك. إنها البيوت التي تُعلّم أبناءها أن اليد العليا هي التي تُعطي لا التي تأخذ، وأن الشبع الحقيقي هو شبع النفس وعزتها، لا شبع البطن وجشعها.

في المقابل، يكمن الخطر الحقيقي في “أبناء السفهاء”. وأنا أتمثل هنا بدقة متناهية تحذيركم، فالسفاهة ليست فقراً في الجيب، بل هي فقرٌ في الروح وانحطاطٌ في الأخلاق. الفقير قد يكون كريماً، بل غالباً ما يكون كذلك، أما “السفيه” فهو ذلك الإنسان الذي يرى في الحياة فرصة للنهب، ويحمل في داخله غِلاً دفيناً وحقداً طبقياً لا واعياً تجاه كل ما هو أصيل ونبيل. إنه المريض النفسي الذي لم يُشفَ من عُقد النقص التي راكمها. وهذا بالضبط ما حذّر منه العلامة ابن خلدون في مقدمته الخالدة، حين قال بلسان الخبير بطبائع العمران البشري : “لا تعلموا أبناء السفهاء منكم، وإن علمتموهم لا تولوهم شئون الجند ولا القضاء”. لماذا هذا التحذير القاطع؟ لأن ابن خلدون أدرك بعقله الفذّ ما سيحدث “لأنهم إذا تعلموا”، أي إذا تسلحوا بأدوات النفوذ والمكانة التي يمنحها العلم والمنصب، “اجتهدوا في إذلال الشرفاء”. إنها ليست مجرد سرقة أو فساد، إنها عملية “إذلال” ممنهجة. السفيه لا يكتفي بالرشوة، بل يستمتع برؤية الشريف وهو ينحني أمامه. لا يكتفي بالظلم، بل يتلذذ بكسر كبرياء من هم أرفع منه خلقاً. إنها متلازمة “الانتقام” من المجتمع عبر المنصب الذي وصل إليه.

ولننظر حولنا، هل هذا مجرد تنظير فلسفي؟ أم أنه الواقع الذي نعيشه كل يوم؟ الأمثلة التي أسوقها ليست استثناءات، بل هي القاعدة التي تؤكد هذه النظرية المرعبة. انظروا إلى “السيد الطبيب” الذي يُفترض أنه وريث الحكماء وحامل رسالة الرحمة، حين يتحول إلى تاجر أعضاء، أو محتكرٍ للدواء، أو ممارسٍ لابتزاز المرضى في لحظة ضعفهم المطلق. هذا ليس مجرد جشع، إنه “سفاهة” خالصة. إنه ابن بيئة لم تُعلمه قَط أن جسد الإنسان له حرمة، وأن الألم ليس فرصة للكسب. ابن العائلة الكريمة، حتى لو أغواه المال، سيتوقف عند حدٍ معين، حد “العيب” و”الحرام” الذي رضعَه في صغره. أما ابن السفهاء فلا حدود له، لأنه يرى في المريض فريسة، وفي شهادته العلمية أداة للنهب، وهو في قرارة نفسه “يُذل” المجتمع الذي كان ينظر إليه كـ “دكتور” بمنتهى التبجيل. إنه ينتقم من نظرة الاحترام ذاتها التي لم يعتدها.

ثم انظروا إلى “السيد القاضي”، الجالس على منصةٍ يُفترض أنها ظل الله في أرضه. حين يمد يده ليقبض رشوة، أو يلوّن حكماً لصالح ظالم، أو يبيع العدالة لمن يدفع أكثر، فهو لا يبيع حكماً، بل يبيع شرف الأمة كلها. هذا القاضي هو الترجمة الحرفية لتحذير ابن خلدون. إنه “ابن السفهاء” الذي تولّى القضاء. إنه يستخدم سلطته المطلقة ليس فقط لجمع المال، بل “لإذلال الشرفاء” الذين يقفون أمامه. كم من بريءٍ شريفٍ دخل السجن، وكم من مجرمٍ وضيعٍ خرج طليقاً، فقط لأن القاضي السفيه أراد أن يثبت لنفسه أنه الأقوى، وأنه قادر على تحطيم مصائر “الشرفاء” بجرّة قلم. ابن العائلة الكريمة، إذا جلس على منصة القضاء، قد يُخطئ، ولكنه لن “يخون” الميزان، لأن خيانته تعني خيانة إرث أجداده، وهو ما لا يقدر على حمله.

أما الكارثة العظمى، فتتجلى في “السيد الضابط”، سواء في الشرطة أو الجيش أو الدرك. هذه المؤسسات هي سياج الوطن وحاملة سيفه. يُفترض فيمن ينتمي إليها أن يكون على قدرٍ من الفروسية والنبل وضبط النفس يفوق أي مواطن آخر، لأنه يحمل القوة المطلقة، قوة السلاح وسلطة القانون. ولكن ماذا يحدث حين يتولى “ابن السفهاء” هذه السلطة؟ نرى الضابط المريض نفسياً، الذي يستمتع بتعذيب المساجين، لا لانتزاع اعتراف، بل لإشباع ساديته. نرى من يلفق القضايا للأبرياء لمجرد خلاف شخصي، ونرى من يقتل بدم بارد بسلاحه الوظيفي، ومنهم من يحمي تاجر المخدرات ويتستر عليه لمجرد استفادته من مبلغ شهري، مدركاً أن منصبه سيحميه. هذا ليس انحرافاً فردياً، إنه “السفاهة” وقد مُنحت الزي الرسمي والسلاح. إنه الحقد الدفين الذي وجد متنفساً آمناً لإذلال الناس. ابن العائلة الكريمة، حين يحمل السلاح، يعرف أنه لحماية الضعيف، لردع المعتدي، وللحفاظ على كرامة المواطن، لأن كرامة المواطن من كرامته. أما “السفيه” فيرى في السلاح أداة “لإذلال” كل من يراه “شريفاً” أو “مستقيماً” أو حتى “محترماً” أكثر منه.

أما المعلم فلم يعد ذلك “الرسول” الذي يتطلب منا ان نقف له ونوفيه التبجيلا، فسفهاء التعليم باتوا يتاجرون بفرض الدروس الخصوصية، و الجنس مقابل النقط. فهذا هو طبع السفاء منهم وليس الفقراء أو الأغنياء، وهذه هي أخلاقهم. ولنا في قصة “الحاج ثابت” عبرة، عندما جاوز هذا السفيه بين التعليم و الشرطة، فالذي فعل فعلته التي اعدم بشأنها وهو ضابط يعلم الله ماذا فعل عندما كان معلما للبنات قبل أن يستقيل ويلتحق بالشرطة. فأبناء الأصول وإن حاولوا خجلوا، وان انزلقوا ثابوا وعادو إلى رشدهم. 

إن المشكلة ليست في “الجدارة” الأكاديمية. قد يكون ابن السفهاء هو الأول على دفعته في كلية الحقوق، وقد يكون أمهر جراح في كلية الطب، وقد يكون الأكثر انضباطاً في أكاديمية الجيش. النظام التعليمي الحديث، القائم على الدرجات فقط، هو نظام أعمى. إنه يقيس الذاكرة والقدرة التحليلية، ولكنه يعجز تماماً عن قياس “المعدن”. إنه يمنح الأدوات القاتلة لأي شخص ينجح في الاختبار، دون أن يسأل السؤال الأهم : ما هو “أصل” هذا الشخص؟ وما هي “القيم” التي يحملها؟ وهل يعاني من مرض نفسي أم لا؟ إننا نعيش في وهم “المريتوقراطيا” (حكم الجدارة)، ونسينا أن الجدارة الحقيقية ليست فقط في العقل، بل في “الأخلاق” أولاً وقبل كل شيء. وما هي الأخلاق إن لم تكن إرثاً يُبنى جيلاً بعد جيل؟ إنها “البيت” الذي خرجت منه.

قد يقول قائل إن ما أقوله “طبقية” بغيضة. أقول بل هي “قيمية” ضرورية. إننا لا نتحدث عن إغلاق الباب أمام الفقراء، بل أمام “عديمي الأخلاق”. والبيت الفقير قد يُخرج “أشرف” الرجال، والبيت الغني قد يُخرج “أسفه” السفهاء. المعيار هو “الكرم” الأخلاقي المتوارث. المعيار هو ذلك الرصيد من السمعة الطيبة الذي بنته العائلة عبر عقود، والذي يخاف الابن أن يبدده في لحظة طيش أو جشع. هذا الخوف من “العار” العائلي، هو الضمانة الحقيقية التي لا يوفرها أي قانون.

إن المؤسسات الحساسة كالقضاء والجيش والطب والتعليم…إلخ، هي شرايين الدولة. إذا سمحنا لدمٍ ملوثٍ أن يجري فيها، فسيموت الجسد كله. إننا لا نأتمن على أموالنا إلا “الأمين”، فلماذا نأتمن على أرواحنا وعدالتنا وأمننا وتعليمنا إلا من كان “ابن أصول”؟ إنها ليست دعوة للتمييز، بل دعوة “للاستئمان”. يجب أن نعيد النظر جذرياً في معايير القبول في هذه الكليات السيادية. لا يكفي اختبار الذكاء، بل نحتاج إلى اختبار “الأخلاق” نحتاج إلى تقييم نفسي للشخصية. نحتاج إلى تحريات اجتماعية لا تسأل عن السوابق الجنائية فقط، بل تسأل عن “سمعة العائلة” وعن “معدن” المتقدم. نحتاج أن نفهم أن الطبيب والقاضي والضابط والمعلم ليسوا “موظفين” عاديين، بل هم “حراس القيم” في المجتمع.

إننا ندفع اليوم ثمن تجاهلنا لحكمة ابن خلدون. ندفع الثمن حين نرى الفساد يستشري ليس كسرقةٍ خفية، بل كـ “إذلالٍ” علني للشرفاء. إننا نرى السفهاء وقد تعلموا وتولوا، وهم الآن يمارسون هوايتهم المفضلة في تحطيم كل ما هو نبيل في مجتمعاتنا. إن لم نعد “للأصل” اعتباره، وإن لم نُحصّن مؤسساتنا السيادية بأبناء العوائل الكريمة الذين يعرفون “الشبع” و”العيب” و”الشرف”، فإننا، وبكل بساطة، نسير نحو لحظة الانهيار الكبرى، حيث لا يبقى للشريف مكان، وحيث يصبح السفيه هو الحاكم والقاضي والجلاد وكما يقول المثل : “إذا كان خصمك القاضي فمن تقاضي؟!”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!