الغزو الناعم أو حينما تتحول المساجد في بلجيكا إلى وكر للتجسس والخيانة

الحسين بنلعايل مدير مكتب موطني نيوز في بلجيكا

الحسين بنلعايل – موطني نيوز 

في عالم يتبارى فيه الخطاب الرسمي للدول في الحديث عن السيادة والاستقلال والأمن، تنشأ من تحت الرماد قوى خفية تمارس أبشع أشكال الاختراق والتآمر. إنها ليست قوى استعمارية تقليدية، بل هي أنظمة تدَّعي الأخوة والوحدة، بينما تنسج في الخفاء شبكات معقدة من التدخل والتجسس والاغتيالات الناعمة. إنها أنظمة خليجية بعينها تتلاعب بمصير الأمم، وتستغل الدين والتحالفات السرية وأذرع الإسلام السياسي لتحقيق أجنداتها، متحولةً إلى قوى استعمارية جديدة بثوب إسلامي.

لطالما شكلت جماعة الإخوان المسلمين محوراً رئيسياً في هذه اللعبة القذرة. فبينما ترفع بعض الأنظمة الخليجية شعارات مضادة للإخوان في العلن، نراها تستضيف قياداتهم وتُمولهم في الخفاء. لقد تحولت الدوحة وأبو ظبي إلى ملاذ آمن لشخصيات مثل إسماعيل هنية ويوسف القرضاوي والمرحوم عباس المدني، رغم الخطاب الإعلامي المعادي للجماعة. هذه الازدواجية المقيتة تكشف الوجه الحقيقي لهذه الأنظمة التي لا تأبه بالمبادئ ولا بالأخلاق السياسية، بل تسعى فقط لتعظيم نفوذها والتحكم في مصير المنطقة. إنها لعبة خطيرة تدار behind the scenes، حيث تتحول الجماعات الإسلامية إلى قطع شطرنج في صراع النفوذ الإقليمي، وتصبح دماء الشباب المسلم ثمناً رخيصاً في معارك الآخرين.

لكن الخيوط تمتد أبعد من ذلك، لتصل إلى قلب أوروبا حيث تنتشر شبكات معقدة من العملاء المزدوجين والجواسيس. في بلجيكا وهولندا، تتحرك شخصيات تدَّعي العمل الدعوي أو التمثيل المجتمعي، بينما هي في الحقيقة أدوات استخباراتية تعمل لصالح أجهزة مخابرات خليجية. هؤلاء ليسوا مجرد ناشطين دينيين، بل عملاء مزدوجين تربطهم علاقات معقدة مع أجهزة استخبارات متعددة، من “لادجيد” المغربي إلى المخابرات البلجيكية والأوروبية. لقد تحولت بعض المساجد في بروكسل وأنفرس إلى وكر للتجسس وتوجيه الرأي العام، حيث يتم اختراق إداراتها والتحكم في تمويلها وتوجيه خطب الجمعة لخدمة أجندات سياسية محددة. إنها خيانة مزدوجة: خيانة للدول المضيفة التي تمنحهم حق اللجوء والأمان، وخيانة للمجتمعات المسلمة التي يفترض أنهم يخدمونها.

الأكثر إيلاماً هو أن ضحايا هذه الألاعيب هم أبرياء من أبناء الجاليات المسلمة في أوروبا، وخاصة الجالية المغربية التي وجدت نفسها محاصرة بين مطرقة الأنظمة الخليجية وسندان التبعية لبلدانها الأصلية. لقد تحولت المساجد والقنصليات والسفارات إلى أدوات للمراقبة والتحكم، حيث يُزرع العملاء بين صفوف الجالية لمراقبة أبنائها، والتأثير على القناصلة، وشيطنة كل صوت حر أو صحفي مستقل. الهدف واضح: إخضاع الجميع لمنطق “التبعية” و”الولاء” الأعمى، وتحويل المجتمعات الحرة إلى قطعان مسيرة تخدم مصالح أنظمة استبدادية. إنها جريمة ليس فقط ضد الأمن القومي للدول الأوروبية، بل ضد كرامة الإنسان وحقه في حرية الفكر والمعتقد.

والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: من يتحمل المسؤولية عن هذه الجرائم المنظمة؟ كيف تسمح الدول الأوروبية لأنظمة أجنبية بخرق سيادتها والعبث بأمن مجتمعاتها؟ إن الصمت الدولي، خاصة من قبل الحكومات الغربية، يشكل تواطؤاً صارخاً مع هذه الممارسات. فبدلاً من حماية مواطنيها ومقدساتها، تتعامل بعض الحكومات الأوروبية بازدواجية مثيرة للاشمئزاز، فتدَّعي محاربة التطرف بينما تسمح لشبكات تجسس تابعة لأنظمة أجنبية بالعمل بحرية على أراضيها. إنه صفقة شيطانية: الأمن مقابل المصالح الاقتصادية، والسيادة مقابل صفقات السلاح والطاقة.

ما يجري اليوم هو أبعد من مجرد محاولة للسيطرة على الإسلام في الغرب، إنه غزو ناعم تمارسه أنظمة تستغل الدين والمساجد وحتى القنصليات لأغراضها السياسية والمخابراتية. إنه استعمار جديد بثوب حديث، لا يحمل البنادق والدبابات، بل يحمل المال والجواسيس وخطابات الكراهية. وإن لم يتم التصدي لهذا الغزو بكل حزم، فإن النتيجة لن تكون فقط تجنيد عقول، بل اختراق دول وتقويض أسس الديمقراطية والأمن القومي.

إن المواجهة تتطلب شجاعة سياسية غير مسبوقة، ووعياً مجتمعياً راسخاً، وتعاوناً دولياً حقيقياً. يجب كشف هذه الشبكات الخبيثة وتعريتها، ومحاكمة المتورطين فيها، ووضع حد لسياسة الكيل بمكيالين في التعامل مع قضايا الإرهاب والتجسس. كما يجب على المجتمعات المسلمة في أوروبا أن تتحرر من قبضة هذه الأجهزة، وأن ترفض أن تكون أدوات في صراعات الآخرين. فالحرية والكرامة هما حق لكل إنسان، ولا يجوز لأي نظام أو جماعة أن تسلبهما تحت أي ذريعة.

إنها معركة وجود بين قوى الخير والشر، بين أنصار الحرية وأنصار الاستبداد، بين داعمي الكرامة الإنسانية ومروجي التبعية والاستغلال. وإن تاريخ الأمم قد أثبت أن قوى الاستبداد والتدخل، مهما بلغت قوتها ومكرها، مصيرها إلى زوال، وأن إرادة الشعوب في العيش بحرية وكرامة ستنتصر في النهاية. فإما أن نقف اليوم ضد هذا الغزو الناعم، أو ننتظر غداً حين نستيقظ على واقع أصبحنا فيه جميعاً مجرد أدوات في يد سادة جدد، يتحكمون في مصائرنا ويقودوننا إلى مصير مظلم لا تحمد عقباه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!