المقصلة الخفية أو عندما تتحول “الزعامة الأبدية” للأحزاب المغربية إلى متاحف سياسية..!!

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

في المشهد السياسي المغربي، تبدو المفارقة صارخة وجارحة. ففي بلد يفخر بكون أكثر من ثلثي سكانه تحت سن الخامسة والثلاثين، تُدار شؤونه السياسية الحزبية بعقليات ووجوه يبدو أنها نجحت في اكتشاف “إكسير الحياة” السياسي، مانحة نفسها حصانة أبدية ضد قوانين التغيير والزمن. إنها “أزمة تجديد النخب”، أو بعبارة أكثر فضحاً، “ظاهرة الزعامات الأبدية”؛ المرض الهيكلي الذي ينخر جسد الأحزاب المغربية منذ فجر الاستقلال، ويحولها من “مدارس للديمقراطية” إلى “مقابر للطموح”. لا يتعلق الأمر هنا بمجرد حنين إلى الماضي أو بوفاء مستحق لجيل الرواد؛ بل بآلية ممنهجة لتكريس الجمود، وبنية ثقافية وقانونية مصممة لخنق أي صوت تجديدي قبل أن يبلغ الحنجرة. إنها قصة “الزعيم” الذي يرفض أن يشيخ، والحزب الذي يرفض أن يكبر، والوطن الذي يدفع ثمن هذا “التكَلُّس” السياسي غالياً. هذا المقال ليس رثاءً للديمقراطية المفقودة، بل هو تشريح أكاديمي لـ “علل” وأمراض الجمود السياسي والإعلامي في المغرب. 

لم تُولد هذه الظاهرة من فراغ. ففي فجر الاستقلال، بُنيت الأحزاب حول “الزعيم” الأوحد. كانت الحركة الوطنية بحاجة إلى رموز ملهمة قادرة على تعبئة الجماهير. شخصيات مثل علال الفاسي، والمهدي بن بركة، وعبد الرحيم بوعبيد، لم يكونوا مجرد رؤساء أحزاب، بل كانوا “آباء” مؤسسين، استمدوا شرعيتهم ليس من صناديق الاقتراع الداخلية، بل من “الشرعية التاريخية” والنضالية. المشكلة لم تكن في وجودهم، بل في “ما بعدهم”. هذه الأحزاب، التي تأسست على “الولاء للشخص” بدلاً من “الولاء للمؤسسة”، فشلت في عملية “المأسسة”. عندما غاب الزعيم المؤسس، وقع الحزب في فراغ قاتل. الحل لم يكن بناء آليات ديمقراطية لإنتاج نخب جديدة، بل كان البحث عن “زعيم” جديد يشبه القديم، أو، وهو الأسوأ، تمسك “الحرس القديم” (الجيل الذي عاصر المؤسس) بالسلطة، معتبراً أن الحزب “إرث” شخصي لا يجوز “التفريط” فيه لـ “شباب” يفتقرون إلى “الشرعية النضالية”. وهنا، لعبت الدولة (أو ما يُعرف بـ “المخزن” في الأدبيات السياسية) دوراً محورياً. فالدولة العميقة، تاريخياً، كانت تفضل التعامل مع “زعامات” مستقرة، معروفة، ويمكن التنبؤ بردود أفعالها، حتى لو كانت ضعيفة التمثيل، على التعامل مع قيادات جديدة، ديناميكية، ومطالبها جذرية. لقد وُجد “تواطؤ” غير معلن بين رغبة “الزعيم” في الأبدية ورغبة “الإدارة” في الاستقرار الشكلي.

إذن، كيف يضمن “الزعيم” بقاءه عقوداً في منصبه؟ الجواب يكمن في هندسة متقنة للجمود. الآلية الأولى هي “تفصيل” القوانين الأساسية للحزب (النظام الأساسي) على مقاس الزعيم، أو ما يسمى بـ “هندسة القوانين الأساسية”. المؤتمرات الوطنية، التي يفترض أن تكون قمة الممارسة الديمقراطية، تتحول إلى مجرد طقوس لتعديل المادة المتعلقة بعدد الولايات. نسمع تبريرات مثل “المرحلة تقتضي الاستمرارية”، أو “الظرفية الدقيقة”، أو “بطلب من المناضلين”. هذه التعديلات هي “مقصلة” قانونية تذبح مبدأ “التناوب” من الوريد إلى الوريد. حيث يتم تصميم مساطر الترشح لمنصب الأمين العام (أو الكاتب الأول) بشكل تعجيزي، يتطلب عدداً هائلاً من التوقيعات أو “التزكيات” التي لا يملكها إلا من يسيطر على “البرلمان” الحزبي. الآلية الثانية هي “الزبونية كأداة للتحكم”. الزعيم الأبدي لا يحكم بالديمقراطية، بل بـ “شبكات الولاء”. هو من يملك مفاتيح “التزكيات” للانتخابات البرلمانية والجماعية. هذا يمنحه سلطة مطلقة. والمناضل لا يصعد بالكفاءة أو بتقديم الأفكار، بل بـ “القرب” من الزعيم أو دائرته الضيقة. لتتحول الأحزاب من فضاءات لإنتاج الأفكار إلى “مقاولات” لتوزيع الريع السياسي. ومن يجرؤ على معارضة الزعيم، يُحرم من التزكية، ويُدفع إلى الهامش، أو يُطرد بتهمة “زعزعة وحدة الصف”. هذه “الزبونية” تخلق “صحراء” سياسية حول الزعيم؛ فلا ينمو بجانبه إلا من يقبل بالتبعية العمياء. وأخيراً، تأتي آلية “مسرحية المؤتمر وإختيار المؤتمرين على القياس والتزكية بالتصفيق”. المؤتمر الوطني، بدلاً من أن يكون لحظة نقاش فكري وسياسي حقيقي، يصبح “مسرحية” رديئة الإخراج. يتم هندسة “المؤتمرين” بعناية لضمان أغلبية مريحة. النقاشات الفكرية تُهمش لصالح “الورقة السياسية” التي أعدها المقربون. والتصويت، في كثير من الأحيان، لا يكون حتى سرياً، بل يتم بـ “رفع الأيدي” أو بـ “التزكية” بالتصفيق. إنها عودة إلى أشكال “البيعة” التقليدية في ثوب حداثي مزيف.

هذا الجمود ليس مجرد مشكلة داخلية، بل له تداعيات كارثية على المنظومة بأكملها، مكوناً أزمة ثلاثية الأبعاد. أولاً، الأزمة السياسية المتمثلة في “نزع الوساطة” وموت الإيديولوجيا. عندما يشيخ القادة، تشيخ معهم الأحزاب وتفقد بوصلتها الإيديولوجية. يصبح الحزب “الاشتراكي” مجرد آلة انتخابية، والحزب “الليبرالي” لا يختلف عن “المحافظ”. هذا “الموت الإيديولوجي” يجعلها عاجزة عن استقطاب الشباب، الذي يرى فيها مجرد “ديناصورات” تتحدث لغة خشبية لا تمت لواقعه بصلة. النتيجة الأخطر هي “أزمة الوساطة”. الأحزاب هي “الوسيط” الطبيعي بين المجتمع والدولة. عندما تفشل هذه الأحزاب وتفقد مصداقيتها، يبحث المجتمع عن بدائل. هذا ما يفسر صعود الاحتجاجات العفوية والعزوف الانتخابي الهائل. فالمواطن يشعر أن صوته لا يصل، وأن هذه الوجوه الأبدية لا تمثله. وهذا “الفراغ” تملأه إما الاحتجاجات الفوضوية أو “الوساطة الملكية” المباشرة، مما يضعف البناء الديمقراطي برمته.

ثانياً، الأزمة الإعلامية التي تكرس الرداءة والسطحية. هنا يبرز الدور الخطير للإعلام، فبدلاً من أن يقوم بدور “الرقيب” ويفضح هذا الجمود، فإنه، في كثير من الأحيان، يكرسه. يركز الإعلام على “من سيخلف من؟” و”صراعات الأجنحة” بدلاً من تحليل “لماذا لا يوجد برنامج؟”. إنه يستضيف نفس الوجوه الأبدية مراراً وتكراراً، مما يمنحها “أكسجيناً” إعلامياً ويقدمها للرأي العام كـ “ثوابت” وطنية. فالإعلام، بسلبيته هذه، “يُطَبِّعُ” مع فكرة أن بقاء زعيم حزب 20 أو 30 سنة هو أمر “طبيعي” في “الخصوصية المغربية”، بدلاً من فضحه كـ “انحراف” ديمقراطي خطير.

ثالثاً، الأزمة المجتمعية المتمثلة في ترسيخ “ثقافة الأب القائد”. على المستوى المجتمعي، كرست هذه الظاهرة ثقافة “الأبوية السياسية”، ثقافة تنتظر “الأب” الزعيم ليحل المشاكل، بدلاً من بناء “المؤسسة” التي تعمل. لقد قتلت هذه الظاهرة “المواطنة الفاعلة” داخل الأحزاب، وحولتها إلى “رعايا” في “ضيعة” الزعيم.

وفي بعض الحالات النادرة التي يحدث فيها “التغيير”، يكون غالباً “تجديداً مغشوشاً”. الزعيم الأبدي، عندما يضطر أخيراً للرحيل، لا يرحل قبل أن “يُعين” خليفته. يختار “الوريث” الأكثر طاعة وولاءً، ليضمن استمرارية “خطه” وسيطرته من خلف الستار. أو يتم اللجوء إلى “القيادات التقنية” (التكنوقراط) كرئيس للحكومة أو كأمين عام، وهو شخص بلا جذور حزبية حقيقية، مما يضمن أن “الحرس القديم” هم من يمسكون بزمام الأمور فعلياً. إنه “تجديد الواجهة” مع الإبقاء على المحرك القديم المتعفن والمتهالك.

إن ظاهرة “الزعامة الأبدية” داخل الأحزاب السياسية في المغرب ليست مجرد خلل إجرائي، بل هي “مرض هيكلي” يعكس أزمة أعمق في الثقافة السياسية المغربية. إنها نتاج ثقافة سياسية “ما قبل ديمقراطية” تقدس الشخص على حساب الفكرة، والولاء على حساب الكفاءة. إن الإعلام الذي يكتفي بعكس هذه الصورة البائسة دون نقدها، هو إعلام متواطئ. والأحزاب التي تقبل بهذا “التكلس” هي أحزاب خانت وظيفتها التاريخية وتملصت من مسؤوليتها تجاه الشعب. فالمغرب اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم. لا يمكن بناء “نموذج تنموي جديد” بـ “نخب سياسية” منتهية الصلاحية. إن كسر “ديكتاتورية الزعيم” داخل الأحزاب ليس ترفاً فكرياً، بل هو شرط أساسي لإعادة المصداقية للعمل السياسي، ولإنقاذ “الوساطة” الحزبية قبل أن تنهار تماماً. نحن لا نحتاج إلى مجرد “تجديد” وجوه، بل إلى “ثورة” في المفاهيم والانتقال من “حزب الزعيم” إلى “حزب المؤسسة”، ومن “شرعية النضال” إلى “شرعية الإنجاز”، ومن “ديمقراطية التصفيق” إلى “ديمقراطية التنافس”. وبدون هذه “الصدمة” الديمقراطية الجذرية، ستبقى الأحزاب المغربية مجرد “متاحف” جميلة، مليئة بالديناصورات والذكريات، وعاجزة تماماً عن صناعة المستقبل، وهذا ما تريده الدولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!