
المصطفى الجوي – موطني نيوز
ليست الدعارة مجرد جسد يُباع، وليست مجرد لحم يُساوم عليه في سوق النهايات البائسة. إنها، في حقيقتها العميقة، فلسفة وجودية قاسية. فلسفة ترفض أن تكون الضحية مرتين، مرة في سرير الخداع، ومرة في ساحة حكم المجتمع. “محترفات الدعارة لا يلدن اللقطاء لأن هن لا يثقن بأحد”. هذه العبارة ليست مجرد قول مأثور، بل هي بيان ميتافيزيقي يعلن انسحاب الروح من معركة خاسرة مقدماً. محترفة الدعارة، في هذه الرؤية المقلوبة، ليست المنحطة بل الحكيمة، ليست الساقطة بل اليقظة. لقد أدركت، من خلال مرارة قد تكون أقسى من ألف سكين، أن العالم ليس حكاية حب، بل صفقة. وأن الثقة ليست فضيلة، بل ثغرة في درع البقاء. فهي لا تبيع جسدها فحسب، بل تشتري لنفسها شيئاً ثميناً لا يقدر عليه كثيرون “اليقظة”. إنها تحترف الحذر. تضع روحها في خزينة حصينة، وتقدم للعالم قشرة الجسد فقط، لأنها تعلم أن العالم لا يستحق أكثر من ذلك. إنها لا تلد لقطاء، لأنها لا تسمح للثقة، ذلك الكائن الطفيلي الخطير، بأن يتسلل إلى جسدها مرة أخرى. فاللقيط، في هذه المعادلة الوجودية المريرة، هو ابن اللحظة الوحيدة التي غفلت فيها، التي تركت باب الحصن مفتوحاً، فدخل الوهم وترك وراءه طفلاً هو شاهد إثبات على سذاجتها.
بينما نحن، الذين نسير في الشوارع مرتدين ثوب الفضيلة، نحمل في داخلنا ألف لقيط من المشاعر والأوهام والثغرات. نحن نلد اللقطاء كل يوم في كلمة حب نقولها لمن لا يستحقها، في صفقة نثق فيها بشريك خائن، في حلم نسلّمه لعالم لا يرحم. نحن نعتقد أن ثيابنا تقينا قذارة العالم، لكن تعالوا معي لنسير على حافة الهاوية وننظر بشجاعة إلى القاع، حيث “تنقلب الموازين وتكشف الأقنعة”. إن الوجوه التي حكمنا عليها بأنها “أثمة” – المحترفة، المنبوذة – قد تكون في واقع الأمر أكثر وعياً وإحترازاً منا. نحن من يجهل النار التي تتقد تحت ثياب طهرنا الواهية. نار الغفلة، نار الاعتقاد بأن الحياة معرض للورد والأماني. فمحترفة الدعارة لا تجهل هذه النار، بل تعيش على مقربة منها كل يوم، لذا فهي لا تحترق بها، بل تدفأ بلهيبها القاسي لتبقى متيقظة.
نستنتج أن اللقيط، إذاً، ليس نتاج فجور محترفة الدعارة أو كما يحلوا لنا أن نسميها العاهرة، بل هو ابن براءة مسمومة. هو النتيجة المنطقية للحظة صدق واحدة. لحظة ضعف مؤقتة اعتقدت فيها المرأة – أو الرجل – أن الكون مكان آمن، وأن اليد الممدودة تحمل وردة لا سكيناً. إنه ابن “لحظة ثقة”. وهنا تكمن المأساة الكبرى لأن الجريمة الحقيقية ليست في بيع الجسد بقدرات محدودة ومعروفة، بل في منح الروح في لحظة عمياء لمصير مجهول لربما كان وعد بزواج أو بوح بحب مزيف. العاهرة يا سادة تتفاوض على سعر جسدها، أما الأم التي أنجبت اللقيط فقد أعطت روحها مجاناً في لحظة ثقة لذئب متعطش للدم و اللحم النيء، فجاء الثمن طفلاً مشرداً، شاهداً على خطيئة الوثوق بعالم لا يعرف الرحمة كتب على شهادة ميلاده إبن زنى. أو كما يحلوا لنا أن ننعته ب : “ولد بن x “.
إن هذه الرؤية تدفعنا إلى إعادة تعريف الفضيلة والرذيلة من جذورهما. هل الفضيلة هي أن تعيش في برج من الأوهام، تمنح ثقتك لكل عابر، ثم تتفاجأ بالخيانة وتلد اللقطاء العاطفية والاجتماعية؟ أم أن الفضيلة الحقيقية هي أن تكون واضحاً، صارماً، حذراً، مثل تلك المحترفة للدعارة التي تعرف بالضبط ما تبيعه وما تحتفظ به، فلا تخون أحداً لأنها لا تعدهم بما لا تستطيع الوفاء به؟ إن إدانة المجتمع لمحترفة الدعارة “العاهرة” هي إدانة للوضوح والصراحة، بينما يتغاضى عن الخيانة التي تتم تحت جنح الظلام وفي أحضان “العلاقات المحترمة”. الخيانة التي تلد لقطاء لا يُعترف بهم إلا عندما يقعون ضحايا في الشوارع.
إن محترفة الدعارة، في فلسفتها الصامتة، ترفض أن تكون أماً. ليس لأنها لا تملك مشاعر الأمومة، بل لأنها ترفض أن تجلب كائناً بريئاً إلى عالم تعرف أنه لا يستحق البراءة. إنها، بطريقتها الملتوية، أكثر أخلاقية من أولئك الذين ينجبون أطفالاً بلا حساب، ويتركونهم لمصير مجهول بسمون لاحقا بأطفال الشوارع، أو يربونهم على كراهية الذات وخيبات الأمل ليتحولوا بكرههم وحقدهم للمجتمع إلى مجرمين في المستقبل تم نسجنهم. العاهرة ترفض المشاركة في استمرارية هذه الدائرة من الخداع. إنها تضحي بغريزة الأمومة على مذبح اليقظة. تضحي بالاستمرار البيولوجي من أجل الحقيقة الوجودية. أليست هذه تضحية يفوق قيمتها كل تضحيات أولئك الذين ينجبون بلا وعي، ثم يلقون بأطفالهم في تيار الحياة القاسي؟
بينما ننشغل نحن بإلقاء المواعظ عن القداسة والعفة، تقدم لنا العاهرة، من دون أن تنطق بكلمة، درساً في الوجود، أن الحياة معركة بقاء، وأن من يغفل فيها، ولو للحظة، يدفع الثمن غالياً. قد يكون الثمن جسداً يُباع بسعر معلوم، أو قد يكون روحاً تُباع في سوق العواطف بأبخس الأثمان. إن خيارها هو خيار الواقعي الذي يفضل الخسارة الصغيرة المحدودة على الخسارة الكارثية غير المحسوبة. إنها ترفض أن تلعب لعبة قد تخسر فيها كل شيء، فتفضل لعبة تعرف قواعدها وخسائرها مسبقاً.
وفي المقابل، يأتي اللقيط كشاهد صامت على هذه الفلسفة. هو الدليل الحي على أن الثقة هي في الحقيقة جريمة. وهو النتيجة المأساوية للاعتقاد بأن القلب ينبغي أن يفتح أبوابه لكل قادم. وجوده نفسه هو تأنيب ضمير للبراءة التي لم تعد تليق بهذا العصر. إن مجتمعنا الذي يدين الأم “الفاجرة” ويشيح بوجهه عن اللقيط، هو نفسه المجتمع الذي ينتج الظروف التي تجعل من الثقة خطيئة، ومن اليقظة والحذر ضرورة للبقاء. نحن نخلق العالم الذي تزدهر فيه “دعارة” الروح، ثم نرفض رؤية الحكمة في “دعارة” الجسد.
هكذا، وفي هذا المساء الفلسفي القاسي، لا نكون أمام دعوة للانحلال أو تبني الدعارة كمثلة عليا، بل أمام دعوة للتفكيك. تفكيك يقينياتنا عن الخير والشر، الطاهر والدنس، الثقة والحذر. إنها دعوة لرؤية العالم بعيون العاهرة اليقظة، اليوم ونحن نشاعد بأم أعيننا ما يقع في مجتمعنا نكشف القناع عن وجوهنا نحن، “الأطهار”. لعل في هذه الرؤية ما يساعدنا على فهم أن الخيانة الحقيقية لا تكمن في بيع الجسد، بل في بيع الوهم، وفي خيانة الذات عبر الغفلة عن حقيقة هذا العالم. واللقيط سيبقى دائماً النتيجة المأساوية لتلك الغفلة تلك النزوة العابرة، بينما تبقى محترفة الدعارة، في عزلتها المقيتة، حارسة لحقيقة مؤلمة، مفادها أن الثقة هي الرفاهية الوحيدة التي لا يستطيع الكثيرون منا تحمل تكلفتها.