عندما يتحول الشعب من ضحية إلى شريك في الجريمة

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

إنها اللحظة الفاصلة في حياة الأمة، تلك التي تتحول فيها الذلّة إلى عادة، والفساد إلى نظام، والخيانة إلى مهنة. إنها اللحظة التي ينتقل فيها المجتمع من كونه ضحية للاستبداد والانحطاط إلى شريك في صناعته وتكريسه. إنها اللحظة التي يتحول فيها الصمت من جبن إلى تواطؤ، والتجاهل من غفلة إلى إجرام. إنها المعادلة الأكثر خطورة في تاريخ المجتمعات، عندما يصبح المواطن العادي جزءًا من آلة الدمار التي تفتك بأحلامه ومستقبله وأرضه.

إن الفساد ليس ظاهرة جديدة في التاريخ الإنساني، فقد عرفته الحضارات جميعًا، من قياصرة روما إلى سلاطين العثمانيين، من بلاطات الملوك إلى أروقة الديمقراطيات الحديثة. لكن الفساد الخطر ليس ذلك الذي يمارسه حاكم مستبد بعيد عن الناس، بل ذلك الذي يمارسه نظام فاسد برضا الناس وبموافقتهم. إنه الفساد الذي يتحول إلى ثقافة، إلى ممارسة يومية، إلى “عرف” سياسي و”عادة” اجتماعية. إنه الفساد الذي لا يقتصر على الحكام فحسب، بل يمتد ليشمل المحكومين، أولئك الذين يباركونه بصمتهم، أو يشرعنونه بأصواتهم، أو يدافعون عنه بسذاجة، أو يتعاملون معه باستسلام.

إن الانتخابات في المجتمعات المنحطة ليست سوى مسرحية هزلية تتكرر كل بضع سنوات، يخرج فيها الناس ليختاروا بين لصٍّ انتهازيٍّ وخائنٍ محترف، بين فاسدٍ قديمٍ وفاسدٍ جديد. يختارون من سرقهم بالأمس على أمل أن يسرقهم أقل غدًا. يختارون من خانهم سابقًا على أمل أن يخونهم لاحقًا لكن لصالحهم هذه المرة. إنها معادلة سادية يتحول فيها الشعب إلى جلاد لنفسه، ضحية تبحث عن جلاد جديد، مريض يستمتع بألمه، أسير يعتاد قيوده حتى تصبح جزءًا من هويته.

إن العقل الجماعي في هذه المجتمعات يمر بعملية تشويه منهجية، حيث يتم تحويل القيم رأسًا على عقب. فاللص يصبح “ذكيًا”، والخائن يصبح “براغماتيًا”، والانتهازي يصبح “عمليًا”، والفاسد يصبح “مرحًا”. بينما الشريف يصبح “ساذجًا”، والمبدأ يصبح “تخلفًا”، والصدق يصبح “ضعفًا”، والنزاهة تصبح “حماقة”. إنها عملية قلب المفاهيم التي حذر منها أورويل في روايته 1984، حيث يصبح الحرب سلامًا، والحرية عبودية، والجهاز قوة. فيصبح الفساد وطنية، والنهب كفاءة، والخيانة دبلوماسية.

إن الصمت ليس حيادًا أبدًا، فالصمت في وجه الظلم موقف، والتجاهل في وجه الفساد قرار، واللامبالاة في وجه الانحطاط خيار. إن من يصمت أمام الفساد يكون قد منحه موافقة صامتة، ومن يتجاهل الجريمة يكون قد شارك فيها، ومن يبتسم في وجه اللص يكون قد شجعه على الاستمرار. إن المجتمع الذي يتقبل الفساد يكون قد حوَّل الفساد من جريمة إلى حق، ومن انحراف إلى قاعدة، ومن مرض إلى ثقافة.

إن أعظم انتصارات الأنظمة الفاسدة ليست في قدرتها على سرقة المال العام، بل في قدرتها على سرقة الضمير العام. ليست في قدرتها على إسكات الأصوات المعارضة، بل في قدرتها على إقناع الناس بأن معارضتها غير مجدية أو خيانة وإنفصال. ليست في قدرتها على تزوير الانتخابات، بل في قدرتها على إقناع الناس بأن الانتخابات نفسها لا قيمة لها. إنها معركة ليست على الأرض والثروات فحسب، بل على العقل والروح، على الأخلاق والإرادة، على الكرامة والإنسانية.

إن الفساد النظامي اليوم وغذا لا يكتفي بإفقار الناس ماديًا، بل يفقرههم أخلاقيًا ومعنويًا. إنه يحول المواطن من كائن سياسي مفكر إلى مستهلك سلبي، من مشارك في صنع القرار إلى متلقٍ للقرارات، من فاعل في التاريخ إلى مشاهد له. إنه يقتل في الإنسان حسه النقدي، ويُذهب منه روح المبادرة، ويُفقد منه الإحساس بالمسؤولية. إنه يحول المجتمع من مجموعة بشر حية إلى قطيع من المستسلمين والخانعين.

إن الديمقراطية في ظل الفساد تتحول إلى أداة لتكريس الفاسدين، إلى آلية لشرعنة اللصوص، إلى مسرحية لإضفاء الشرعية على الانتهازيين. فبدل أن تكون أداة للمحاسبة والمراقبة، تتحول إلى وسيلة للتمويه والتضليل. بدل أن تكون مجالًا للمشاركة الشعبية، تتحول إلى سوق لبيع الذمم والضمائر. بدل أن تكون تعبيرًا عن الإرادة العامة، تتحول إلى أداة لتزوير الإرادة وتشويه الاختيار.

إن مسؤولية المثقف في هذه اللحظات التاريخية تكون أعظم من أي وقت مضى. فليس من مهمة المثقف أن يكون بوقًا للسلطة أو ترجمانًا للواقع، بل أن يكون ناقدًا لهذا الواقع، مقاومًا لهذه السلطة، منيرًا للطريق نحو التغيير. إن على المثقف أن يكسر جدار الصمت، أن يفضح آلية التضليل، أن ينير العقول الغافية، أن يوقظ الضمائر النائمة. أن يكون صوتًا للحقيقة في زمن الأكاذيب، شجاعًا في زمن الجبناء، مستقيمًا في زمن الانحناءات.

إن الانتخابات ليست مجرد عملية روتينية، بل هي لحظة حقيقية للمحاسبة، فرصة للرفض أو القبول، اختبار للإرادة الشعبية، امتحان للضمير الجماعي. إنها اللحظة التي يقرر فيها الشعب مصيره، ليس باختيار من سيحكمه فحسب، بل وباختيار من سيسمح له بالحكم. إنها اللحظة التي يقرر فيها هل سيكون ضحية أم شريكًا في الجريمة، هل سيكون طرفًا في المعادلة أم خارجها.

إن صوتك في الانتخابات ليس مجرد ورقة تُلقى في صندوق، بل هو موقف وجودي، خيار أخلاقي، قرار مصيري. إنه تعبير عن إرادتك الحرة، شهادة على وعيك، دليل على كرامتك. إنه الفارق بين أن تكون إنسانًا حرًا مسؤولًا وبين أن تكون رقمًا في معادلة الفساد. إنه الفارق بين أن تكون شريكًا في صنع التاريخ وبين أن تكون ضحية له.

إن المقاطعة للانتخابات الفاسدة ليست هروبًا من المسؤولية، بل هي موقف سياسي وأخلاقي في أعلى درجات الوضوح. إنها رفض للعبثية، مقاومة للاستخفاف، دفاع عن الكرامة. إنها قول “لا” للفساد، “لا” للانتهازية، “لا” للخيانة. إنها إعلان أن الشعب ليس أداة طيعة في يد الفاسدين، ليس رقمًا في معادلاتهم، ليس وسيلة لشرعنة جرائمهم.

إن المشاركة في الانتخابات الفاسدة ليست وطنية، بل هي خيانة للوطن. ليست واقعية، بل هي استسلام للواقع. ليست براغماتية، بل هي انتهازية. إنها تشجيع للفساد، تفريط في الحق، تنازل عن المسؤولية. إنها تحويل للشعب من ضحية إلى شريك في الجريمة، من مظلوم إلى ظالم لنفسه.

إن التغيير الحقيقي لا يبدأ من القمة، بل من القاعدة. لا يبدأ من السلطة، بل من الشعب. لا يبدأ بالانتظار، بل بالمبادرة. إنه يبدأ عندما يرفض الفرد أن يكون شريكًا في الجريمة، عندما يقرر أن يكون صوتًا للحقيقة في زمن الأكاذيب، عندما يختار أن يكون منحىً في زمن الانحدار. عندما يقول “كفى” للفساد، “كفى” للانتهازية، “كفى” للخيانة.

إن التاريخ لن يرحم المتفرجين، ولن يشفق على المستسلمين، ولن يرحم المتواطئين. إن صفحات التاريخ ستسجل ليس فقط جرائم الفاسدين، بل وصمت الضحايا، وتواطؤ الشعوب، وانهزام الإرادات. ستسجل كيف تحولت أمم بأكملها من ضحايا للفساد إلى شركاء فيه، كيف قبلت بالذلّ كخيار، وبالفساد كمسار، وبالخيانة كمصير.

إن المسؤولية الأخلاقية لا تقل أهمية عن المسؤولية السياسية. فكما أن الحاكم مسؤول عن حكمه، فإن المحكوم مسؤول عن اختياره. كما أن الفاسد مسؤول عن فساده، فإن من يمنحه الصوت مسؤول عن منحه هذه الشرعية. إنها دائرة من المسؤولية المتبادلة، حيث يتحمل الجميع مسؤولية ما وصلت إليه البلاد من تدهور وانحطاط.

إن النضال ضد الفساد ليس نضالًا سياسيًا فحسب، بل هو نضال ثقافي، أخلاقي، وجودي. إنه معركة على هوية الأمة، على مستقبلها، على كرامتها. إنه صراع بين قيم النزاهة والشرف وقيم الانتهازية والوصولية. بين ثقافة الحياة وثقافة الموت. بين إرادة التغيير وإرادة الاستسلام.

إن الانتخابات القادمة ليست مجرد مناسبة سياسية عابرة، بل هي محك حقيقي لوعي الشعب، لكرامته، لإرادته. هي اختبار لمدى استعداده للتحرر من دائرة الفساد، للخروج من حلقة التواطؤ، لكسر قيود الصمت. هي فرصة ليقول “لا” للفاسدين، “لا” للانتهازيين، “لا” للخونة.

فلا تكن مشاركًا في الجريمة، لا بصمتك، ولا بصوتك، ولا بتبريراتك. لا تمنح شرعية لمن سرقك، لا تمنح ثقة لمن خانك، لا تمنح فرصة لمن استهان بعقلك. كن صوتًا للحقيقة، شجاعًا في زمن الجبناء، مستقيمًا في زمن الانحناء. كن ذلك الإنسان الذي يرفض أن يكون شريكًا في الجريمة، الذي يختار أن يكون ضمير الأمة في لحظات الظلام.

هاهي الانتخابات على الأبواب، فأرونا ماذا أنتم فاعلون. أرونا هل ستختارون أن تكونوا ضحايا أم شركاء في الجريمة؟ هل ستختارون الصمت أم الصوت؟ هل ستختارون الاستسلام أم المقاومة؟ هل ستختارون الذلّ أم الكرامة؟ الاختيار بين الفساد والنزاهة ليس مجرد اختيار سياسي، بل هو اختيار وجودي، اختيار بين الحياة والموت، بين الوجود والعدم. فاختاروا بحكمة من يمثلكم فملك البلاد برئ منكم ومن أختياراتكم، لأن مستقبلكم، ومستقبل أبنائكم، ومستقبل وطنكم، معلق بهذا الاختيار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!