المغرب الصاعد ورهان العدالة المجالية..قراءة في الخطاب الملكي لافتتاح السنة التشريعية

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

في لحظة سياسية محفوفة بالتحديات الداخلية والخارجية، جاء الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح البرلمان لسنة 2025 ليُحدّد بوضوح لا لبس فيه معالم الخارطة السياسية والتنموية للمملكة في هذه المرحلة الانتقالية الحاسمة. لم يكن خطاباً احتفالياً تقليدياً، بل كان وثيقة عمل استراتيجية، مليئة بالإشارات القوية والتحفيزات الملحة، الموجهة ليس فقط إلى البرلمانيين، بل إلى كل مكونات المشهد السياسي والاجتماعي المغربي علما أنه لم يأتي على ذكر الحكومة الا في ثلاث جمل لا غير من مجموع خطابه كاملا.

ففي مستهل خطابه، رسم جلالة الملك الإطار الزمني والعملاني لهذه السنة التشريعية، مؤكداً أنها السنة الأخيرة في ولاية مجلس النواب الحالي. هذه الإشارة الزمنية لم تكن بريئة، بل حملت في طياتها دعوة مبطنة إلى تسريع وتيرة العمل وتجنيد كل الطاقات لاستكمال الملفات العالقة. إنها رسالة واضحة مفادها أن “زمن السياسة” المحدد بانتخابات يجب ألا يعطل “زمن التنمية” المستمر. وقد تجلى هذا المنطق في الدعوة الصريحة إلى تجاوز أي تناقض أو تنافس بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية، في إشارة نقدية ضمنية للجدل السياسي العقيم الذي غالباً ما يفصل بين ما هو وطني استراتيجي وما هو اجتماعي آني، وكأنهما على طرفي نقيض.

لكن جوهر التحول الذي أراده الخطاب يكمن في المفهوم الجديد والطاغي لـ “العدالة المجالية”. لقد انتقل الخطاب من مستوى الشعارات العامة حول التنمية إلى مستوى التطبيقات الميدانية الدقيقة، محولاً مستوى التنمية المحلية من مؤشر تقني إلى “مرآة صادقة” تعكس مدى تقدم “المغرب الصاعد والمتضامن”. هذا التحول في الرؤية يمثل نقلة نوعية في فلسفة الحكم، حيث أصبحت الجغرافيا – بجبالها وسواحلها وواحاتها ومراكزها القروية – هي المحور الرئيسي لقياس نجاح السياسات العمومية.

ولعل في التوجيهات المحددة التي أطلقها جلالة الملك ما يؤكد عمق هذه الرؤية الاستراتيجية. فالدعوة إلى “إعادة النظر في تنمية المناطق الجبلية التي تغطي 30 في المئة من التراب الوطني” ليست مجرد برنامج قطاعي عادي، بل هي اعتراف تاريخي من الإقصاء المجالي وإعلان عن نية لتصحيح هذا الخلل الهيكلي. إن جعل هذه المناطق محط سياسة عمومية مندمجة هو ضرب من العدالة التصحيحية التي تهدف إلى لمّ الشمل الجغرافي للمملكة. وبالمنطق نفسه، جاء التركيز على التفعيل “الأمثل والجدي” لآليات التنمية المستدامة للسواحل، وهو توجيه يحمل نبرة نقدية للتقصير الحاصل في تعاطي الحكومات المتعاقبة بما فيها الحالية مع هذا الملف الحيوي، بينما يضع على عاتق الحكومة الحالية مسؤولية تحقيق التوازن بين الاستثمار والحفاظ على الثروة الساحلية.

الأمر الأكثر قوة في الخطاب هو الربط الواضح والصريح بين تحقيق هذه النقلة التنموية وضرورة إحداث “تغيير ملموس في العقليات وفي طرق العمل”. إنه تشخيص دقيق لأزمة النموذج التنموي المغربي، الذي غالباً ما تعثر بسبب بيروقراطية الإدارة وثقافة الريع وغياب ثقافة النتائج. إن الدعوة إلى “ترسيخ ثقافة النتائج، بناءً على معطيات ميدانية دقيقة، واستثماراً أمثل للتكنولوجيا الرقمية” هي بمثابة إعلان عن نهاية عصر القرارات التقديرية غير المبنية على معطيات، وبداية عصر المساءلة القائمة على القياس والمتابعة.

ولم يغب البعد المجتمعي عن قلب هذا المشروع التنموي. فالدعوة إلى “تأطير المواطنين والتعريف بالمبادرات والقرارات” لم تكن مجرد تذكير بدور النخب، بل كانت إعلاناً عن عقد اجتماعي جديد تقع فيه مسؤولية الشرح والتوضيح على عاتق كل الفاعلين، من برلمانيين وأحزاب ومجتمع مدني والإعلام. إنها رؤية تدرك أن أي تحول تنموي، مهما كان طموحاً، سيظل هشاً إذا لم يُفهم ويُستوعب من قبل الجمهور المستفيد، الذي غالباً ما يبقى بعيداً عن دوائر صنع القرار.

وبالتالي، يمكن القول إن الخطاب الملكي كان أكثر من مجرد كلمات تقال في مناسبة برلمانية؛ لقد كان إطاراً مرجعياً شاملاً لمرحلة جديدة. إنه خطاب يضع البرلمان والحكومة أمام مسؤولياتهم التاريخية، ويحدد أولويات لا تحتمل التأجيل. إن صاحب الجلالة في خطابه اليوم يقدم رؤية للمغرب كدولة لا تكتفي بالنمو الاقتصادي، بل تسعى إلى تحقيق عدالة مجالية حقيقية، قائمة على تكامل المناطق وتضامنها. إنه تحدٍّ يواجه النظام السياسي بكامله، واختبار حقيقي لإرادته الجماعية في الانتقال من منطق الخطاب إلى منطق الفعل، ومن ثقافة الوصاية إلى ثقافة المسؤولية المشتركة. النجاح في هذا الاختبار هو ما سيحدد، فعلياً، معنى “المغرب الصاعد” ومحتواه الحقيقي في أذهان المغاربة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!