
المصطفى الجوي – موطني نيوز
نحن اليوم، وبلا أدنى مواربة، نقف على حافة منحدر خطير. إنها لحظة فارقة في مسار وطننا الحبيب، لحظة تكاد تكون مصيرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. إن المشهد الراهن يشبه إلى حد كبير مسرحية مأساوية تتداخل فيها الأدوار وتتشابك الخيوط في نسيج معقد من الأزمات. من ناحية، نرى حكومة متعنتة، تائهة في دهاليز صنع القرار، عاجزة عن رؤية أبعد من أنفها، تتعامل مع الوضع وكأنها تدير أزمة عابرة وليس مرحلة تأسيسية جديدة في حياة الأمة. إنها تقدم حلولاً ترقيعية لواقع منهار، كمن يلملم أجزاء إناء محطم بلصق لا يقوى على حمل مائه. هذا التعنت الحكومي الغريب، الذي يفتقر إلى أي مبرر منطقي في ساعة مثل هذه، ليس سوى دليل إضافي على العجز الفكري والسياسي الذي تعانيه النخبة الحاكمة، والتي تبدو منفصمة تماماً عن نبض الشارع وعن حجم الكارثة التي تتربص بالبلد.
وفي الجهة المقابلة، هناك حراك شعبي شبابي، عفوي وغير متحكم فيه، يشبه بركاناً طال سكونه فانفجر بكل قوة محملاً بتراكمات سنوات من الإحباط والخيبة والغضب المكبوت. هذا الحراك ليس مجرد احتجاج على قرار ما أو مطلب ظرفي؛ إنه صيحة رفض مدوية للواقع بأسره، رفض لمنظومة فاسدة ومتعفنة لم تعد قادرة على تقديم الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم. إنه تعبير صادق عن جيل ضحى بمستقبله وهو يشاهد ثروات بلده تنهب وحلمه في حياة كريمة يتبدد. خطورة هذا الحراك تكمن في عدم تنضيده وغياب قيادة موحدة له، مما يجعله قابلاً للتحول إلى طاقة هدامة إذا لم يتم احتواء غضبه وتوجيهه نحو قنوات التغيير السلمي البناء. وهو ما يزيد من احتمالية الانفلات الأمني والاجتماعي الذي لن ينجو منه أحد.
وفي وسط هذا المشهد الملتهب، تقف النخب السياسية التقليدية، أو ما تبقى منها، وكأنها تنتظر على جانب الطريق لترى مآل الأمور. نخب محنطة، منهكة من سنوات في السلطة أو في المعارضة الشكلية، فقدت بريقها وفقدت معها صلتها بالجماهير. كثير منها أصبح جزءاً من المشكلة وليس جزءاً من الحل، منغمساً في صراعاته الداخلية وحساباته الضيقة، عاجزاً عن تقديم رؤية خلاقة تستوعب لحظة الغضب التاريخي هذه وتحولها إلى فرصة حقيقية للتغيير. إن هذا الفراغ القيحي والفكري هو الذي يغذي حالة التيه والغضب معاً.
في خضم هذه العتمة، تبرق بصيص أمل وحيد، قديم جديد، يتمثل في المؤسسات الوسيطة، وعلى رأسها الأحزاب السياسية الوطنية ذات المصداقية والتاريخ النضالي المشرق. تلك الأحزاب التي حملت راية الوطن في ظروف أصعب، وتمتلك في ذاكرتها الجماعية وتراكم تجاربها ما يؤهلها لقيادة مرحلة العبور. إنها اليوم أمام اختبار وجودي حقيقي؛ إما أن تثبت جدارتها وتستعيد دورها التاريخي، أو تسقط نهائياً من حسابات الشعب وتترك الساحة للفوضى أو للقوى الظلامية التي تتربص بالبلد. المخرج لا يكمن في الترقيع ولا في الخطابات الإنشائية، بل في مشروع وطني جامع للإصلاح الشامل. مشروع يكون واضحاً في رؤيته، محدداً في آلياته، وثورياً في مضامينه. مشروع لا يخاف كلمة “ثورة” لأن الوضع يستحق ثورة حقيقية في الفكر والممارسة.
هذا المشروع الوطني لا يمكن أن يكون مجرد برنامج انتخابي تقليدي. يجب أن يكون عقداً اجتماعياً جديداً بين الدولة والمواطن، مبنيًا على أسس متينة تلامس جوهر الإشكاليات. ولعل أولى هذه الأسس وأكثرها إلحاحاً هي المطالب الشبابية العادلة، والتي يمكن تلخيصها في محورين رئيسيين: محاربة الفساد الممنهج، وإصلاح منظومتي التعليم والصحة. إن الفساد لم يعد مجرد حالات فردية يمكن معالجتها بقوانين جزئية، بل أصبح نظاماً قائماً بذاته، شبكة معقدة من المصالح تلتهم موارد الدولة وتقتل روح الأمل لدى الشباب. لذلك فإن محاربته تحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية لا تهادن، وإلى مؤسسات رقابية مستقلة ذات صلاحيات واسعة، وإلى تطبيق حقيقي لقانون الإدارة المالية وقانون منع الإثراء غير المشروع، مع ضمان حماية المبلغين عن الفساد. كما أن إنشاء محاكم متخصصة للنظر في قضايا الفساد الكبرى، مع تسريع إجراءاتها وضمان شفافيتها، هو أمر حتمي لاستعادة ثقة المواطن في مؤسسات الدولة.
أما المحور الثاني، وهو إصلاح منظومتي التعليم والصحة، فهو بمثابة القلب النابض لأي إصلاح حقيقي. فمنظومة التعليم الحالية تنتج أمية وظيفية وجيلاً بلا مهارات تتناسب مع متطلبات سوق العمل في القرن الحادي والعشرين. الإصلاح هنا يجب أن يكون جذرياً، يبدأ بمراجعة المناهج لتخريج مواطن مفكر وناقد ومبدع، وليس حافظاً ومستظهماً. يتطلب الأمر استثماراً ضخماً في البنية التحتية للمدارس والجامعات، وفي تكوين الأساتذة وتحسين أوضاعهم المادية والمعنوية، لجذب الكفاءات والاحتفاظ بها. كما أن الربط العضوي بين مخرجات التعليم وسوق العمل، من خلال التوسع في التعليم التقني والمهني، هو السبيل الوحيد لامتصاص بطالة الشباب التي تعد وقوداً لأي احتقان.
وبالنسبة لمنظومة الصحة، فإن الوضع لا يقل خطورة. المستشفيات العمومية تئن تحت وطأة الإهمال ونقص التجهيزات والكوادر، مما يهدد الحق الأساسي للمواطن في العلاج. الإصلاح الصحي الشامل يجب أن يرتكز على تعزيز الطب الوقائي، وتعميم التغطية الاجتماعية، وبناء مستشفيات جديدة وتجهيز القائم منها بأحدث التقنيات، وتشجيع الاستثمار في صناعة الدمح والتجهيزات الطبية محلياً لتقليل التبعية للخارج. إن صحة المواطن هي ثروة الوطن الحقيقية، وإهمالها هو جريمة في حق الأمة ومستقبلها.
لكن هذه الإصلاحات الجزئية، رغم أهميتها القصوى، تبقى غير كافية إذا لم تكن جزءاً من رؤية أشمل لإعادة هيكلة الدولة نفسها. مشروع الإصلاح الشامل يجب أن يطال النظام السياسي برمته، لتعزيز الديمقراطية التشاركية الحقيقية، وليس الشكلية. ذلك عبر إقرار اللامركزية الموسعة التي تمنح الجهات والجماعات المحلية صلاحيات حقيقية في التدبير وإدارة الشأن المحلي، مما يخفف من المركزية المفرطة التي تعطل التنمية وتقتل المبادرة. كما أن إصلاح القضاء لضمان استقلاليته ونزاهته هو حجر الزاوية في بناء دولة القانون، دولة يكون فيها الجميع سواسية أمام القانون، لا سيادة للقوي ولا إمهال للضعيف.
وهنا تأتي المسؤولية التاريخية للأحزاب الوطنية. عليها أن تتحلى بالجرأة السياسية التي طالما انتظرها الشارع. جرأة في مواجهة الحكومة المتعنتة، بالحجة والمنطق والقوة القانونية، وليس بالصمت أو بالمجاملة. وجرأة في مواجهة الشارع الغاضب، بالحوار الصادق والخطاب الواقعي الذي لا يبيع أوهاماً ولا يخفي صعوبة المرحلة. عليها أن تفتح قنوات اتصال حقيقية مع فئات الشباب وقوى الحراك، تستمع إلى مطالبهم وتدرجها في برامجها، وتشركهم في صياغة الحلول. لا يمكن لهذه الأحزاب أن تلعب دور الوسيط إذا كانت منعزلة في برجها العاجي.
الأحزاب مدعوة اليوم إلى توحيد جهودها، ولو على قاعدة دنيا من المشتركات، لتشكيل قوة ضغط شعبية ومؤسساتية لا يمكن للحكومة تجاهلها. يمكنها عقد مؤتمرات وطنية جامعة، وإطلاق حوارات مفتوحة في الساحات العامة، وصياغة وثيقة “المشروع الوطني للإصلاح الشامل” بشكل تشاركي، ثم العمل على تسويقه جماهيرياً والضغط من أجل تنفيذه. إنها لحظة تتطلب وحدة وطنية حقيقية، تتجاوز الخلافات الثانوية وتتجه نحو الهدف الأكبر: إنقاذ البلاد من الهاوية.
إن الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المؤسسات الوسيطة، إذا أحسنت التصرف وامتلكت الجرأة، هو دور حاسم في حماية البلاد من الانفلات. إنها بمثابة الصمام الأمان الذي يمنع الغضب الشعبي من التحول إلى عنف أعمى، ويجنب الدولة مخاطر الانهيار. من خلالها، وحدها، يمكن أن نضع أسس دولة القانون والعدالة والكرامة التي حلم بها الآباء المؤسسون والتي يستحقها أبناؤنا. دولة لا يكون فيها المواطن رقمًا في إحصائية، بل شريكاً حقيقياً في صنع القرار والثروة.
إن النداء الذي نوجهه اليوم إلى الأحزاب الوطنية ذات الضمير والنضال هو نداء استغاثة من وطن على حافة الهاوية. إنه نداء يأتي من قلب الشعب، من عيون الشباب المتطلع إلى غد أفضل، من آهات المرضى في المستشفيات، من صبر المعلمين في قاعات الدراسة، من صمود كل مواطن شريف لم يفقد الأمل بعد. إنه نداء التاريخ نفسه. فهل تسمع هذه الأحزاب النداء؟ هل ستقوم بدورها التاريخي قبل فوات الأوان؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست مسؤولية الأحزاب وحدها، بل هي مسؤولية كل فرد في هذا الوطن، لأن مصيرنا جميعاً مرتبط بقدرة هذه القوى على عبور الأزمة، أو عجزها عن ذلك. والخيار بين العبور والهاوية لم يعد يحتمل أي تأجيل.