من يحمي الفساد في المغرب؟

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

لم أعد أستطيع أن أتنفس نفس الهواء الذي يتنفسه الفاسدون، ولم أعد أتحمل أن تكون الحقيقة غريبة في وطنها، وأن يكون حاملها مشبوهاً، بل مجرماً. إنه السؤال الذي يطارح نفسه بعنف، ليس كاستفهام بل كاتهام، من يحمي الفساد في هذه البلاد؟ من ذلك الكائن الخفي، ذلك التنين متعدد الرؤوس الذي يلف البلاد بخيوط لا تراها العيون، لكننا نحن، رجال الصحافة، نعيش وخزها كل يوم، ننزف منها، ونتساءل، لماذا وصل بنا الحال إلى أن يصبح فضح الفساد جريمة، بينما ممارسته تاجاً على رؤوس أصحابه؟

لن أتحدث اليوم بلغة الخطابات الرنانة، ولا سرد التجارب العالمية، فجرحي شخصي، وخيبتي من “صاحبة الجلالة” الصحافة عميقة. لقد ماتت الصحافة في دولة تزعم أنها “دولة الحق والقانون”، الدولة الوحيدة – ربما في العالم كله – التي لا تعترف بقيمة الصحافة ولا تضحي برجالها دروعاً للحقيقة، بل تتركهم دروعاً من لحم ودم تُطعن من الخلف. نحن لسنا أبطالاً، بل شهوداً على زمن العهر العام، شهوداً غير مرغوب فيهم.

تخيل معي هذه الصورة، تمضي الأسابيع والشهور، أنت منكب على تحقيق صحفي، كمن ينقب عن الماس في مقلب نفايات. جهد مضن، تتبع للخيوط، تدقيق للمعلومة، وخوفٌ متراكم من أن تخطئ فتسقط في براثن التشهير. والنتيجة؟ تحقيق يتضمن معلومات خطيرة، بعضها يمس “أجهزة” تعرف أكثر مما تظهر، وبعضها يكشف ما خفي عن هذه الأجهزة نفسها. تنشره على أمل أن يكون صفارة إنذار، بل وأكثر من ذلك، على أمل ضئيل أن تسمع ولو كلمة شكر واحدة، إشارة واحدة تفيد بأنك قد أسديت خدمة لهذا الوطن الذي تدعي أنك تحبه. كلمة شكر تجعلك تشعر بأن عناءك لم يذهب سدى، بأنك لم ترمِ حجراً في بئر صماء.

لكن ما يحدث هو العكس تماماً. لا نقاش في المضمون، لا تحقيق في الوقائع، لا حركة لتصحيح المسار. كل الآلة تنقلب على سؤال واحد، سؤال وحشي، ساذج، ومعبر عن عقلية القطيع “من سرب المعلومة لموطني نيوز؟!” انظر إلى هذا السؤال جيداً، إنه جوهر الكارثة. إنه اعتراف ضمني بصحة المعلومة، لكن مع إعلان الحرب على حاملها وليس على الفاسد الذي كُشف. تصبح كل الأجهزة مجندة، لا للبحث عن الفاسد، بل للبحث عن “الوشاح” الذي تجرأ وأخرج العفن إلى النور. تصبح معركة الدولة ليست ضد الفساد، بل ضد من يكشفه. أليست هذه مهزلة وجودية؟ أليست انتحاراً أخلاقياً للدولة بأكملها؟

هنا ينكشف المستور. هنا تشعر أن كل هذا الجهد، هذا العناء، هذا الخوف، قد تم تبخيسه وتصغيره. لقد حولوك من صحفي يحقق في قضايا الوطن إلى مشكلة إدارية يجب حلها، إلى “ثغرة أمنية” يجب سدها. تكتب عن تشابك تجارة المخدرات مع فساد بعض عناصر الأمن، فتصبح أنت الشخص غير المرغوب فيه. يشيطنونك، يعزلونك، وكأنك قد أشركت بالله، أو نطقت بكلمة الكفر! الفساد العظيم جائز، لكن الحديث عنه هو الكفر الحقيقي. هذه هي العقيدة السائدة.

وفي خضم هذه المعركة المقلوبة، أستحضر مسيرتي التي تمتد لثمانية وعشرين عاماً. ثمانية وعشرين عاماً من الركض وراء الحقيقة، من مواجهة التهديد، من قلق الليل، ومن رائحة الحبر التي اختلطت برائحة الخوف. في هذه السنوات كلها، لم يسبق لي، ولا مرة واحدة، أن تلقيت كلمة شكر واحدة من مسؤول انتقدته. لم يقل أحدهم: “شكراً، لقد أخطأت وسأسعى للإصلاح”. لا. إن غياب كلمة الشكر هذه كان، في الواقع، هو التثمين الوحيد الذي تلقيتُه. كان تأكيداً ضمنياً على أنني لم أفتري، على أنني قمت بواجبي. إنه الصمت الذي يصرخ بالحقيقة.

بل أكثر من ذلك، لقد حوّلتني هذه المسيرة إلى “مجموع” للدعاوى القضائية. خمس وسبعون دعوى قضائية هي رصيدي من “شهادات التقدير” من نظام يرى في القضاء سلاحاً لإسكات الأصوات، لا وسيلة لإقامة العدل. خمس وسبعون مرة وقفت فيها أمام القضاء، لا كمتهم في قضية فساد، بل كمتهم لأنه تجرأ وسمى الفساد باسمه. وكانت آخر هذه الزيارات للفرقة الوطنية للشرطة القضائية في الدار البيضاء. انظر إلى السخرية، الفرقة التي من مهمتها النظر في قضايا الفساد الخطيرة، تجلس على الكرسي المقابل لها الصحفي الذي كشف الفساد. لقد تحول الصياد إلى فريسة، والمجرم الحقيقي يجلس في مكتب مكيف، يضحك على سذاجة النظام الذي يحميه.

إن ما يحدث هو أكبر من مجرد اضطهاد للصحفيين. إنه نظام متكامل لحماية الفساد. إنه “اقتصاد سياسي” للفساد. الفساد هنا لم يعد ظاهرة عارضة، بل أصبح نظاماً قائماً بذاته، له رجاله، وقوانينه غير المكتوبة، وآلياته الدفاعية. الصحافة هي العدو الطبيعي لهذا النظام، لأنها تهدد بقاءه بكشف علاقاته الداخلية وتدفقاته المالية. لذلك، فإن إسكات الصحفي ليس عملاً انتقامياً شخصياً، بل هو إجراء “وقائي” لحماية النظام الفاسد ككل. إنهم لا يدافعون عن فاسد معين، بل يدافعون عن مبدأ الفساد نفسه، عن حقهم “الإلهي” المزعوم في نهب البلاد دون أن يحاسبهم أحد.

هذه الآلية الدفاعية لا تعمل فقط عبر القضاء، بل عبر وسائل أكثر خبثاً. التهميش الإعلامي، والتشويه الشخصي، وخلق حالة من الخوف العام، واللعب على وتر “الاستقرار” و “صورة البلاد”. يصورون الصحفي النزيه على أنه عميل لأجندات خارجية، أو أنه يحارب في الرمق الأخير من استقرار البلاد. يختزلون الوطن فيهم، فيصبح الدفاع عنهم دفاعاً عن الوطن، والهجوم عليهم هجوماً على الوطن. إنها معادلة شيطانية نجحوا في ترسيخها. بل الأنكى من كل هذا يسخرون أبواقا لهم عبر حسابات فيسبوكية وهمية تسبك وتلعنك وتتهمك بما ليس فيك، بل منهم من يصبح يناقش حياتك الشخصية التي ليس من حق اي كان! انها سياسة القطيع عندما تختلف معهم او تنبش عش الدبابير.

ليبقى السؤال قائماً، من يحمي الفساد؟ الجواب المؤلم هو الجميع. يحميه الصمت الرسمي، يحميه القضاء عندما يُستعمل بشكل انتقائي وانتقامي، تحميه أجهزة الدولة عندما تتحول إلى شرطة فكر للبحث عن المصدر بدلاً من البحث عن الجريمة، ويحميه المجتمع عندما يستسلم للخوف ويصبح متفرجاً. نحن نصنع دروع الفساد بأيدينا، بضعفنا، وبصمتنا.

لكن هذه المعاناة، وهذا الاضطهاد، هو في الحقيقة شهادة صدق. إنه الدليل الحي على أننا نقترب من الجرح الحقيقي. لو كنا نكذب أو نبالغ او منبطحين على بطوننا نداس ونغتصب، لما كان كل هذا الغضب، وهذا التجنيد، وهذا العدد من الدعاوى القضائية. هم لا يخافون من كذبة، بل يخافون من الحقيقة التي نطقنا بها. إن أرشيفي المكون من 75 دعوى هو أرشيف المحاكم المغربية شرف لي، وشهادة عار على نظام يحمي الفاسدين ويحارب الشرفاء.

إن المعركة اليوم لم تعد معركة صحفيين ضد فاسدين، بل هي معركة وجودية للبلاد. معركة بين من يريدون مغرباً تحكمه الشفافية والحق والقانون، وبين من يريدون إمبراطورية للفساد تحكمها العصابات والزبونية والسرية ويسودها تجار المخدرات. وأنا، بعد 28 عاماً، وأمام الدعوى القضائية الخامسة والسبعين، أقول، سأستمر. لأن الصمت هو الموت، والكلمة، حتى وإن كلفتني حريتي، هي الحياة. قد يحمون الفساد اليوم، لكن التاريخ لا يحمي إلا الحقيقة، ونحن، رغم أنف الجميع، حاضرون ولنا وجود والتاريخ شاهد علينا.

ولن أقول اكثر مما قالوا : “القافلة تسير والكلاب تنبح” لكن نباح الكلاب لن يوقف القافلة، وبعملية حسابية سهلة ستجد ان أبواق الفساد لم يبارحوا مكانهم بل تدهورت حالتهم والسبب انهم الفئة الوحيدة في الكون التي لا تتقاعد.

2 thoughts on “من يحمي الفساد في المغرب؟

  1. رأيك عين الصواب أخي المصطفى ، هذه هي الحقيقة ولو كانت مرة ، كل التضامن معك و كل المساندة ، نعتز بآرائك دائما. تحياتي النضالية لك و لأمثالك أينما وجدوا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!