
محمد اكن – موطني نيوز
منذ أن بدأ الإنسان يسير على هذه الأرض، حمل في قلبه أسئلة لا تنتهي: لماذا وُجدنا؟ ولماذا نختلف؟ وكيف يمكننا أن نداوي جراحنا العميقة؟ هذه الأسئلة لم تكن مجرد استفسارات فلسفية، بل كانت نداءً مستمرًا من الروح، بحثًا عن معنى، عن ملاذ، عن ضوء في عالم غارق أحيانًا في الظلام. لقد شكل الدين على مر العصور أحد أهم الوسائل التي حاول الإنسان من خلالها فهم ذاته، وعلاقته بالآخر، وعلاقته بالعالم، بل وبالوجود نفسه.
الدين في جوهره ليس مجرد عقيدة أو طقوس، ولا هو سيف يُستعمل لإخضاع الآخرين، بل هو لغة الروح، نغمة خفية تدعو البشر إلى الرحمة، تدعونا لنستعيد الوعي بأن أصلنا واحد، وأن أرواحنا تنبع من نبع واحد، مهما اختلفت أسماء الكتب المقدسة: التوراة، الإنجيل، القرآن. هذه الكتب، على اختلاف أديانها، لم تُكتب لتفرق، بل لتوحد، ولم تُكتب لتزرع الحقد، بل لتزرع النور في قلوب البشرية.
القرآن الكريم، الذي يعرف بكونه كتاب الرحمة، يعترف بقدسية التوراة، ويشير إلى وعد الله بعودة بني إسرائيل إلى أرضهم، ويأمر المؤمنين أن يجادلوا أهل الكتاب بالكلمة الطيبة، “التي تشفي ولا تجرح”. إن هذا التوجيه ليس مجرد نص ديني، بل هو قاعدة أخلاقية، وفلسفية، واجتماعية، تؤكد على أن الحوار والرحمة يجب أن يكونا أساس العلاقة بين البشر قبل أي اتفاق سياسي. وللأسف، كثير من صناع القرار يغلقون أعينهم عن هذه الحقيقة البسيطة: أن السلام يمكن أن يولد من الكلمات، وأن الجسور الروحية أقدر على توحيد الناس من أي معاهدات رسمية مكتوبة على الورق.
من هذا الظمأ الروحي، وُلد كتاب “الثورة الإبراهيمية”، الذي يستند إلى رؤى توم ويغنر حول الحوار بين الأديان. لم يُكتب ككتاب ديني تقليدي، ولم أكتبه كرجل دين، بل كتبته كإنسان متعب من النزاعات، عطشان للنور، يبحث عن كلمة توحّد ولا تفرّق، عن مساحة يستطيع فيها البشر أن يتحدثوا بصوت واحد رغم اختلافاتهم، عن عالم يمكن أن يكون فيه الآخر ليس عدواً بل شقيقاً في الإنسانية، يشاطرنا الضحك والبكاء، الفرح والحزن، الرجاء والانكسار. هو محاولة لرسم خريطة جديدة للعلاقات الإنسانية، خريطة لا تُكتب بالحدود السياسية، بل بخيوط الرحمة، حيث يصبح المشترك بين الأديان جسرًا، والذاكرة الروحية وقودًا لسلام طال انتظاره منذ قرون، حيث يصبح الحوار مفتاحًا لفتح القلوب قبل أن يفتح الأبواب، وفهم الآخر أداة لبناء الثقة قبل بناء أي مؤسسات.
لقد بدأت البذور الأولى لهذه الفكرة تنبت في العالم الإسلامي، في قلوب القارئ الذي يكتشف صدى نداء قديم كان يبحث عنه بلا وعي، في لحظة يجد فيها الكلمات متنفسًا للروح، فرصة للحوار، مساحة لطرح الأسئلة دون خوف من الأحكام المسبقة. ومن هنا أصبح إصدار الكتاب باللغة العربية أكثر من مجرد مشروع شخصي، بل واجب جماعي وروحي، لأن الكلمات حين تُترجم تصبح جسورًا، والجسور تفتح أبوابًا واسعة، أبعد من أي حدود يمكن أن تفرضها السياسة أو الصراعات التقليدية. هذه الكلمات تصبح أدوات تغيير، تزرع في القلوب بذور الأمل، وتذكرنا بأن السلام ليس حلمًا بعيد المنال، بل مشروعًا يمكن أن يُبنى خطوة خطوة، حوارًا بعد حوار، كلمة بعد كلمة.
أي جسر لا يُبنى بيد واحدة، وكل نصر على الفوضى يحتاج إلى مشاركة الجميع. لذلك، أدعو القراء والمثقفين والمهتمين بالسلام والحوار، ليس فقط للمساهمة في نشر كتاب، بل لنشر حلم شامل: حلم أن نسير معًا نحو مستقبل تُضاء فيه الشموع بدل أن تُشعل الحرائق، ويعلو فيه صوت الدعاء بدل الصراخ، ويصبح الحوار صمام الأمان في مواجهة النزاعات. إن الدين ليس ساحة حرب، بل قصيدة إنسانية، تقول لكل منا: لست وحدك… هناك آخر يشبهك في الضحك والبكاء، الرجاء والانكسار.
فلنجعل من الدين لحنًا يلتف حول القلوب، ومن نصوصنا المقدسة نوافذ تفتح على ضوء جديد، لا جدرانًا تحجبنا عن بعضنا البعض. فلنسمح للنصوص المقدسة أن تصبح جسورًا للإنسانية، لا سيوفًا للانقسام، ومن رحمها وُلدت الحروب، نعم… لكن من رحم الدين نفسه يمكن أن يولد فجر طويل يضيء أرضًا أنهكها الليل، ويعيد للإنسان الأمل الذي يبدو أحيانًا مستحيلًا في خضم صخب السياسة والصراعات.
الحوار بين الأديان ليس خيارًا إضافيًا أو رفاهية فكرية، بل ضرورة حضارية وأخلاقية، لأنه الجسر الوحيد الذي يمكن أن يربط بين الماضي المشحون بالصراعات، وبين مستقبل أكثر عدلاً ورحمة، إذا امتلكنا الشجاعة للاستماع قبل الكلام، وللنظر في الآخر قبل الحكم عليه، وللإيمان بأن الإنسانية أوسع من أي عقيدة، وأن الروح أعمق من أي سياسة أو نزاع، وأن السلام الحقيقي يبدأ من الداخل قبل أن يظهر على الخارطة.
المقال كتبه توم ويغنر وترجمه محمد إكن