
المصطفى الجوي – موطني نيوز
“أكثر ما يكرهه القطيع هو إنسان يفكر بشكل مختلف، إنهم لا يكرهون رأيه في الحقيقة، ولكن يكرهون جرأة هذا الفرد على إمتلاك الشجاعة للتفكير بنفسه ليكون مختلفا”.
بهذه العبارة التي تشبه سكيناً تشق غشاء الوعي الجمعي، يضعنا شوبنهاور أمام المرآة الأكثر قسوة، لسنا أمام رفض فكرة، بل أمام خيانة للميثاق غير المكتوب الذي يجعل الكل نسخاً متطابقة. إنها جرأة الوجود المنفرد التي تقوض أسطورة الجماعة.
الحقيقة هنا ليست سجينة منطق الصواب والخطأ، بل هي رهينة لشجاعة الكائن الذي يرفض أن يكون صدى. حين يقول الإنسان “أنا أرى بعيني لا بعيونكم”، فهو لا يعلن انشقاقاً فكرياً فحسب، بل يطعن في شرعية القطيع ذاته. إنها ثورة الوعي الفردي ضد استبداد “النحن” المقدسة.
في هذا المسار، يصبح سقراط ليس مجرد فيلسوف شرب السم، بل شهيد الوعي المفكر في مواجهة اليقين النائم. موته لم يكن عقاباً على خطأ، بل طقساً تكفيرياً لجريرته الكبرى، تذكير المدينة بأن وعيها الجماعي قائم على هشاشة وجودية. وهو ما تطور لاحقاً في نيتشه الذي رأى في “الروح الحرة” كائناً مشروداً في صحراء اللاانتماء، يحمل عبء التفكير خارج قطيع “الأخلاق السائدة”.
علم الاجتماع يقدم لنا مفارقته القاسية، المجتمع الذي يحتفي بالتفرد نظرياً، يرفضه وجودياً. دوركايم كشف كيف يخلق الوعي الجمعي قدسية للتماثل، ويحول المختلف إلى “شاذ” ليس لأنه مخطئ، بل لأنه يهدد نظام الطقوس الاجتماعية. أما فرويد فأضاف البعد السيكولوجي، كراهية المختلف هي إسقاط لما نخشى مواجهته في أعماقنا. نحن نحطم المرآة لأننا لا نتحمل رؤية انعكاسنا الحقيقي.
والتاريخ هو السجل الدامي لهذه المأساة المتكررة. غاليليو لم يحاكم لأنه أخطأ في الحساب، بل لأن منظاره شق ثقباً في سقف الكون المغلق. جوردانو برونو لم يُحرق لأن فكرته مجردة، بل لأن كلماته هزت عروش الكهنة. الجريمة هنا ليست في الفكرة، بل في الجرأة على امتلاكها خارج القطيع.
وفي العصر الحديث، حيث أصبحت الفردانية شعاراً، اكتشفنا أن القطيع لم يمت بل تنكر بأقنعة جديدة. وسائل التواصل الاجتماعي خلقت قطيعاً عالمياً أكثر دهاءً، حيث يصبح الاختلاف جريمة عقابها العزلة والاغتيال المعنوي. كما قال إيريك فروم، الخوف من الحرية يجعل الإنسان يفضل العبودية الجماعية على عبء المسؤولية الفردية.
والفنانون والمبدعون هم شهداء هذا الصراع بامتياز. فان جوخ لم يكن مجنوناً، بل كان يرى بعين لم تعتدها القطيع. لوحاته كانت صرخة وجودية في عالم يريد الألوان ضمن دائرة محددة. وبودلير لم يكن منحرفاً، بل كان شاعراً يكتب جمال القبح ويقبض على تناقضات الوجود.
وبالتالي، الاختلاف ليس ترفاً فكرياً، بل هو قدر وجودي. و اختيار بين أمان القطيع ووحدة الحقيقة. كما قال كامو، الحرية الحقيقية هي تلك التي تقبل خطر الوحدة. ربما تكون هذه الوحدة ثمن الشجاعة، لكنها تظل السبيل الوحيد لكائن يرفض أن يكون مجرد صدى في عالم مليء بالأصداء.
هذه هي تراجيديا المفكر، أن يدفع ثمن جرأته وحيداً، بينما يتحول إلى أيقونة بعد أن يختفي خطر عدواه. التاريخ لا يكافئ الشجاعة، بل يستهلكها ثم يقدسها عندما تتحول إلى ذكرى آمنة.
وكما سبق وقلت قبل ختام هذه المادة، فالحداثة، رغم شعاراتها عن الفردانية، لم تقض على القطيع بل أعادت تشكيله في صورة أكثر خفاءً وانتشاراً. كما أشار جوستاف لوبون، الفرد في الجماهير يفقد ملكاته النقدية ويصبح ذرة في موجة عمياء. لم يعد القطيع محلياً بل صار معولماً، حيث كلمة واحدة على منصات التواصل يمكن أن تثير كراهية جماعية عابرة للقارات. وأصبح العقاب ليس بالسيف، بل بالعزلة والتشهير والاغتيال المعنوي. كما كتب إيريك فروم عن “الخوف من الحرية”، فإن القطيع المعاصر يكره المختلف لأنه يذكره بالمسؤولية التي هرب منها، مسؤولية أن يكون حراً.
هذا الواقع يضع الفرد أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الذوبان في القطيع فيجد الأمان، أو البقاء وحيداً فيجد الحقيقة. ولهذا قال ألبير كامو : “الحرية لا معنى لها إن لم تتضمن خطر الوحدة”. فالقيمة الحقيقية للفكر الحر ليست في صحته المطلقة، بل في جرأة امتلاكه بمعزل عن الأمان الوهمي للقطيع. إنها طريق منفى، طريق لا يقطعه إلا من قبل أن يعيش عارياً بلا يقين جماعي. في النهاية، الحقيقة قد تكون جرحاً مفتوحاً، لكنه جرحك أنت، لا جرح القطيع.
فمن اراد فهم الواقع عليه بفتح كتاب الأمير لمكيافيلي وقراءته بتمعن لا كما يدرسه الأكاديميون بل كما لو كان سلاحا في يدك.