
المصطفى الجوي – موطني نيوز
في عالم لا يرحم من الصراعات، حيث تُحاك المؤامرات في القاعات المغلقة وتُدار الحروب بالوكالة، تبرز أحيانًا حلقات مواجهة تكشف عن عمق المكر الاستخباري وتفوق الذكاء التكتيكي. القصة الكاملة لمحاولة الاغتيال الفاشلة لوفد حماس القيادي في قطر ليست مجرد حكاية عن هروب من مصيدة، بل هي سردية معقدة عن شكوك مبررة، واستخبارات مضادة فعالة، واستغلال للثقة المفرطة التي يمنحها الطرف المهاجم لنفسه. لقد نجحت حركة حماس في كشف كمين أمريكي إسرائيلي محكم، وتمكنت من قلب الطاولة على مهندسيه، محوّلة عملية اغتيال محتملة إلى إحراج استراتيجي مدوّ للعدو.
جوهر نجاح العملية الاستخباراتية لحماس لم يكن في تفجير القنبلة أو إسقاط الصواريخ، بل كان في اللحظة التي تولدت فيها الشكوك في أذهان قادتها. إن الإصرار الأمريكي غير المعتاد على عقد اجتماع داخل فيلا منعزلة وخاصة، وليس في برج فندق مرتفع وآمن كما هو متعارف عليه في مثل هذه اللقاءات الدولية، كان هو الشرارة الأولى التي أشعلت فتيل الريبة. في عالم الظلال هذا، فإن الخروج عن النمط المعتاد ليس مجرد تفصيل لوجستي، بل هو جرس إنذار ينذر بوجود لعبة أخرى. لقد فهمت قيادة حماس أن هذا الإصرار يحمل في طياته رائحة الفخ، وأن الفيلا المعزولة تشكل سيناريو مثاليًا لعملية إخفاء للجريمة، بعيدًا عن أعين العالم وآلات التصوير في الفنادق الدولية.
لم يكن رد الفعل انكماشًا أو إلغاءً للاجتماع، بل كان تحركًا تكتيكيًا بالغ الذكاء يعتمد على التضليل. بدلاً من إرسال الهدفين الأساسيين، الدكتور خليل الحية وخالد مشعل، تم إرسال عناصر التأمين والحرس الشخصي حاملين معهم هواتف القادة النقالة. هذا القرار لم يكن عبثيًا؛ فهو يجسد فهمًا عميقًا لآلية عمل التقنيات الحديثة في العمليات الاستخباراتية. فالهواتف المحمولة ليست مجرد أجهزة اتصال، بل هي أجهزة تتبع وإشارة، تكون في كثير من الأحيان الهدف الذي تُوجه إليه الصواريخ الذكية. من خلال إدخال هذه الهواتف إلى قلب الفيلا، كانت حماس تقدم “طعمًا” ثمينًا للمهاجم، وتؤكد بشكل قاطع نواياه الإجرامية.
لم تكن الصواريخ الخمسة عشر التي قصفت الفيلا ودمرتها بالكامل سوى الخاتمة المتوقعة التي أكدت صحة شكوك حماس. كان القصف، الذي يُفترض أنه تعاون إسرائيلي أمريكي، هو اعتراف صريح بالفشل. لقد أُطلقت الصواريخ على أجهزة هواتف وحراس شخصيين، بينما كان القادة الحقيقيون بأمان بعيدًا. هذه النتيجة لم تكن محض صدفة أو حظًا، بل كانت ثمرة تحليل استخباري دقيق وتخطيط استباقي حوّل القوة الساحقة للعدو ضد نفسه.
في النهاية، تترك هذه الحادثة تداعيات عميقة تتجاوز نجاة الأفراد. لقد كشفت عن ثغرة في منهجية القوى العظمى، تعتمد على التقدير المفرط لقدراتها واستخفافها بذكاء الخصم. لقد قدّرت أمريكا وإسرائيل الأدوات التكنولوجية أكثر من تقديرها للعقل البشري والحدس المكتسب من سنوات من المواجهة. أما حماس، فقد عززت من سرديتها الداخلية والخارجية كحركة لا تعتمد فقط على المقاومة المسلحة، بل على مقاومة استخباراتية قادرة على تفكيك أعقد المخططات في عقر دارها. لقد نجحوا ليس فقط في النجاة، بل في فضح الآلة القمعية للعدو وتقديم درس قاسٍ في أن أساليب الحرب التقليدية قد لا تجدي نفعًا ضد خصم يفكر خارج الصندوق، ويجيد لعبة الثعالب أكثر منهم.