
المصطفى الجوي – موطني نيوز
أمام مشهد صمتٍ مريبٍ يلفُّ المؤسسات الدينية الرسمية في المغرب، يتساءل المرءُ بحيرةٍ وغضب، أين حماةُ العقيدةِ من هذا الغزو التبشيري الصارخ الذي يجتاح منصات التواصل الاجتماعي، مستهدفاً عقولَ وشبابَ أمةٍ بأسرها؟ إنها مهزلةٌ كبرى أن تشهدَ الساحةُ الدينية انشغالاً تاماً باحتفالاتٍ ورقصاتٍ في زوايا بالألوان، بينما تُفتح أبوابُ الفيسبوك على مصاريعها للتبشير بمسيحيةٍ تستقطبُ المغاربةَ في صمت، دون أن تتحركَ جهةٌ رسميةٌ أو غيرُ رسميةٍ لسد هذا الثغر الخطير.
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، التي يفترض أن تكون حصناً منيعاً، تبدو غائبةً عن المشهد تماماً، وكأن الأمر لا يعنيها. والمجالس العلمية الإقليمية، التي تُنشأ لمثل هذه الوظائف، تسبح في نومٍ عميقٍ وكأنها في عالمٍ آخر. أما الأحزاب ذات المرجعية الدينية، من عدل وإحسان إلى عدالة وتنمية، فهي منهمكةٌ في معاركها الانتخابية، وكأن المعركة الحقيقية ليست على عقيدة الأمة، بل على مقاعد البرلمان.
المفارقةُ الساخرةُ أن “ذباباً إلكترونياً” يُسلَّط بشراسة على أي صوتٍ حرٍ يجرؤ على نقدٍ بناء، بينما تُترك حفريات التبشير تعبث بعقول الشباب دون رادع. فأين الفتاوى حينما يحتاجها الناس؟ وأين العلماءُ والفقهاءُ من هذه المعركة المصيرية؟ لماذا يُبدون شجاعةً ضد مواطنين عزل، ويتبخرون حينما يواجهون تحدياً حقيقياً لعقيدة الأمة؟
ليس هذا صمتاً عادياً، بل هو تواطؤٌ غيرُ مباشرٍ مع مشروعٍ يهدف إلى تفريغ الهوية من مضمونها. إنه انشغالٌ بالتوافه والاحتفالات الشكلية، بينما تُباع العقيدة في السوق المفتوحة. لقد أصبحت الأولويات مقلوبة، والمسؤوليات مُهملة، والنتيجة هي تخليٍ صارخ عن الواجب الأساسي، حماية الإيمان من الاختراق.
إنها وقاحةٌ أن تُلهى الجماهير بصراعاتٍ هامشيةٍ وطقوسٍ شكلية، بينما العدوُ الحقيقيُ يتسلل إلى بيوتنا عبر الشاشات. فإما أن تستفيق هذه المؤسسات من سباتها، وتعيد ترتيب أولوياتها، وتواجه هذا الخطر بأقصى ما لديها من أدوات، أو أن تعترف بأنها أصبحت جزءاً من المشكلة، وليس الحل.
بكل وضوحٍ وبلا مواربة، فإنّ أصابع الاتهام لا تُوجه إلى الخارج فقط، بل إلى مكامن الخلل البنيوي والوظيفي داخل المشهد الديني المغربي نفسه. ها هي جروح النظام الديني الرسمي تنزف في صمتٍ مطبق، بينما تُباع عقيدة الشباب في سوق الفيسبوك المفتوحة. إنه احتكارٌ بلا حماية، تَدَّعي فيه المؤسسة الرسمية سيطرتها على إدارة الشأن الديني وهي عاجزةٌ عن الدفاع عن حوزته أمام أبسط التهديدات. فإذا كنتَ الحارس الوحيد، فكيف تفتح الباب على مصراعيه للتيارات التبشيرية ولا تُصدر إلا صمتًا؟
إنها الأولويات المقلوبة التي تحوّل المؤسسة من حارس للعقيدة إلى مُروّج للفولكلور. تنشغل بالاحتفالات الشكلية والطقوس الاستعراضية، كالاحتفاء بالمولد النبوي بطرق لم يُشرعها الدين، بينما الأمة تُستهدف في صميم عقيدتها. إنهم يرقصون والجيل يُخطف من تحت أنوفهم. ثم يأتي عجزٌ فاضح عن مواكبة العصر، حيث يعيش العالم في الفضاء الرقمي وتسبح هذه المؤسسات في أدواتٍ تقليديةٍ بطيئة. “الذباب الإلكتروني” الذي يُسلَّط بشراسة على المنتقدين، يعجز تمامًا عن مواجهة حملات التبشير المنظمة، لأن الأولوية عندهم ليست حماية العقيدة، بل حماية الهيبة.
ولا ننسى آفة التسييس والصراعات الداخلية، حيث تتحول المجالس العلمية إلى واجهاتٍ للترقية الوظيفية، وتنغمس الأحزاب الإسلامية في معاركها السياسية الضيقة. الجميع يبحث عن كرسي، ولا أحد يبالي بحريق عقول الشباب الذي يشب في الغرف المظلمة على فيسبوك. والأشد مرارة هو القطيعة مع الشباب، حيث يقدم الخطاب الرسمي الديني خطابًا جافًا وتهديديًا، بينما المبشرون يتقنون لغة العصر والإقناع الناعم، يعرضون المنح الدراسية والرعاية الاجتماعية بينما نحن نقدم وعظًا منزوع الروح.
ولا تنسوا 70 الف مغربي ممن تشيعوا في بلجيكا لوحدها بسبب غياب المؤسسة الدينية عن احتواء المغاربة في بلاد المهجر.
الحقيقة المرة أن المشكلة ليست في وجود مبشرين فقط، بل في بيئة خصبة من الفراغ الروحي والفساد الإداري والعجز العلمي والانشغال بالصورة عن الجوهر. هذه المؤسسات، بهذا الشكل، لم تعد جزءًا من الحل، بل أصبحت عبئًا على الدين نفسه. لقد قدموا للشباب الإسلام على أنه مجرد تراث فولكلوري وأغانٍ ورقصات، فذهب الشباب يبحثون عن يقين روحاني. والنتيجة أنهم خانوا الأمانة مرتين مرة حين فرطوا في العقيدة، ومرة حين وجهوا الاتهام للشعب بأنه هو من ضل الطريق.
ولعلمكم فهذه الصفحات لم تكتفي بنفث سمومها على منصة التواصل الإجتماعي فيسبوك، بل تعدته لدرجة مراسلة رواده على الخاص.