وصمة التشهير أو حين يصبح الإعلام سيفًا مسلطًا على الرقاب

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

في زمنٍ تتراقص فيه الأخبار على وقع الشاشات وتتلاطم فيه الأمواج الرقمية، باتت كرامة الإنسان سلعةً رخيصةً تُباع وتُشترى في سوق الفضائح المفتوح. قضية الفنانة الشابة غيثة عصفور ليست مجرد حادثة عابرة، بل هي صرخةٌ مدويةٌ تفضح عوار مشهدٍ إعلاميٍّ بات يقتات على التشهير، وينهش في أعراض الناس تحت ستارٍ زائفٍ من “حرية التعبير” و”حق الجمهور في المعلومة”. فبعد أن برأها القضاء من تهمٍ ألصقت بها، ولفظت النيابة العامة ملفها لغياب الأدلة، ظلت وصمة التشهير تلاحقها كظلٍّ أسود، محفورةً في ذاكرة الملايين الذين شاهدوا اسمها وصورتها تُعرضان على الملأ، قبل أن يقول القضاء كلمته الفصل. إنها مفارقةٌ مؤلمةٌ أن تكون البراءة القضائية عاجزةً عن محو آثار حملاتٍ إعلاميةٍ لا تعرف الرحمة، ولا تلتزم بأدنى معايير المهنية والأخلاق.

إن صمت النيابة العامة المطبق أمام جرائم التشهير العلنية، التي ارتكبت على مرأى ومسمع الملايين عبر المنصات الرقمية، يثير علامات استفهام كبرى حول دورها في حماية الأفراد من هذه الحملات الممنهجة. فكيف يمكن لمؤسسة يُفترض بها أن تكون حامية الحقوق، أن تتجاهل هذا الكم الهائل من الانتهاكات الصارخة التي تطال سمعة الأبرياء؟ إن حفظ الملف لغياب الأدلة في القضية الأصلية لا يعفيها من مسؤوليتها في التصدي لجرائم التشهير التي تلتها، والتي لا تقل خطورة عن الجريمة الأصلية إن لم تزد. والأكثر إثارة للدهشة هو الغياب التام لوزير العدل عن المشهد، وهو الذي يُفترض به أن يكون رأس الحربة في الدفاع عن العدالة وسمعتها. فبينما نراه يتدخل في قضايا عابرة لا تمس جوهر العدالة، يلتزم الصمت المطبق أمام قضية هزت الرأي العام ومست كرامة مواطنة، وكأن كرامة المواطن باتت قضية ثانوية لا تستدعي تدخله، أو أن هناك حسابات أخرى تحكم مواقفه وتصرفاته، بعيدًا عن مبادئ العدل والإنصاف.

أما المجلس الوطني للصحافة، الذي يُفترض به أن يكون الحصن المنيع لأخلاقيات المهنة وصمام الأمان ضد تجاوزاتها، فيعيش مفارقةً خطيرةً تكشف عن عمق التناقض الذي يعصف بالمشهد الإعلامي. فكيف يمكن لمن يقود حملات التشهير، ومن يمارس أبشع أشكال الابتزاز الإعلامي، أن يكون هو نفسه حاضرًا في قلب آليات التنظيم عبر جمعية الناشرين؟ هذا التضارب الصارخ في المصالح يُفرغ أي حديث عن التنظيم الذاتي أو حماية المهنة من محتواه، ويُحوّل المجلس إلى مجرد واجهةٍ تضفي الشرعية على ممارساتٍ لا أخلاقية. إنها مهزلةٌ أن يُطلب من الضحية أن تشتكي لمن هو جزءٌ أصيلٌ من المشكلة، وأن نُعوّل على مؤسسةٍ يُفترض بها أن تحمي أخلاقيات المهنة، بينما قياداتها متورطةٌ في انتهاك هذه الأخلاقيات بشكلٍ مباشرٍ وصارخ.

والأدهى من ذلك، أن هذه المنابر الإعلامية التي تتشدق بالجرأة والبحث عن الحقيقة، تظهر جبنًا واضحًا عندما يتعلق الأمر بالملفات الثقيلة التي تخص لوبيات العقار، والفراقشية، ومن تضارب مصالح واضح يحيط ببعض كبار المسؤولين مثل السيدة عزيز أخنوش، والسيدة فاطمة الزهراء المنصوري، أو السيد مولاي حفيظ العلمي. إن جرأتها تتوقف عند حدود المواطن البسيط، الفنانة الشابة، الطالب، الناشط، أو المدون. أما الأقوياء، فإما يُسكت عنهم صمتٌ مطبقٌ، أو يُقدَّمون في صورة شركاء يُحتفى بهم في بلاطوهاتٍ دعائيةٍ مصممةٍ لتلميع صورتهم. بهذه الانتقائية المقيتة، تتحول حرية التعبير إلى ذريعةٍ للتشهير بالضعفاء، بينما تتحول أمام الأقوياء إلى صمتٍ مطبقٍ، أو إلى خدمةٍ لمصالحٍ ضيقةٍ لا علاقة لها بالرسالة النبيلة للصحافة. وهذا ما يفضح عمق التناقض في مشهدٍ إعلاميٍّ يرفع شعار الحرية وهو أبعد ما يكون عنها، بل هو أسيرٌ لأجنداتٍ ومصالحَ لا تمت للمهنية بصلة.

إن هذه المفارقات الصارخة، وهذا التناقض الفاضح، يضعنا أمام سؤالٍ جوهريٍّ ومُلِحٍّ، كيف يُمكن أن ننتظر من مؤسسةٍ أن تردع التشهير وتحمي كرامة الأفراد، بينما من يمارسه ويستفيد منه هو نفسه حاضرٌ في قيادتها وصناعة قراراتها؟ إنها معضلةٌ أخلاقيةٌ ومهنيةٌ تتطلب وقفةً جادةً ومراجعةً شاملةً لدور الإعلام ومؤسساته في مجتمعاتنا، قبل أن تتحول حرية التعبير إلى مجرد غطاءٍ لممارسة التشهير وتصفية الحسابات على حساب كرامة الأبرياء، وقبل أن نفقد الثقة تمامًا في كل ما يُعرض علينا باسم الخبر والحقيقة. إن إصلاح هذا المشهد الإعلامي المأزوم لم يعد خيارًا، بل ضرورةٌ حتميةٌ لضمان مجتمعٍ تسوده العدالة والكرامة، ويُصان فيه حق الفرد في سمعته وحياته الخاصة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!