السوسيولوجيا سلاح المعرفة الذي يزعج السلطة

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

ليست المصادفة أن يقرر الراحل الحسن الثاني إغلاق معهد علم الاجتماع عام 1970  في الرباط بشكل مفاجئ، بل كانت تلك خطوة مدروسة في سياق حرب طويلة بين المعرفة والسلطة. فالسوسيولوجيا النقدية، بمنهجها التحليلي الذي يفكك البنى الاجتماعية ويكشف آليات الهيمنة، كانت – وما تزال – مصدر إزعاج لأنظمة تفضل أن يبقى المجتمع غارقاً في التلقين بدلاً من التساؤل. فما حدث لم يكن مجرد قرار إداري عابر، بل كان اعترافاً ضمنياً بأن الأفكار النقدية قد تكون أخطر من أي سلاح.

ولطالما شكلت السوسيولوجيا تهديداً وجودياً للسلطة، لأنها ترفع الغطاء عن الزيف الذي تُبنى عليه الخطابات الرسمية. فعندما يبدأ الباحثون في تحليل الفوارق الطبقية، أو تفكيك شبكات الزبونية، أو كشف الآليات التي تنتج الخضوع عبر الدين والتعليم، فإنهم بذلك يهدمون الأسس التي تقوم عليها شرعية النظام. فالسلطة تريد مواطناً مستسلماً لقناعة أن الفقر قدر محتوم قدره الله عليك، وأن “الاستثناء المغربي” حقيقة لا تقبل النقاش، في حين أن السوسيولوجيا تقول العكس، لا شيء في المجتمع طبيعي، كل شيء مُنتَج تاريخياً وقابلاً للتغيير.

وبالتالي، إغلاق المعهد لم يكن مجرد رد فعل على نشاط طلابي أو تواجد يساريين بين أساتذته، بل كان رسالة واضحة لا مكان في المغرب لعلوم تُنتج وعياً نقدياً. لقد أدرك النظام مبكراً أن طلاب علم الاجتماع لن يكونوا مجرد موظفين في الإدارات، بل قد يتحولون إلى نقاد للواقع، يسائلون كل المسلمات التي تكرسها السلطة. وكانت السبعينيات فترة حرجة في تاريخ المغرب، حيث تصاعد المد اليساري وباتت الأفكار الراديكالية تهدد النسق السياسي القائم. فكان القمع المعرفي، إلى جانب القمع الأمني، جزءاً من استراتيجية شاملة لضمان بقاء القطيع تحت السيطرة.

لكن هل توقف هذا الخوف من السوسيولوجيا بعد إغلاق المعهد؟ بالطبع لا. لقد تنقلت الآليات من القمع المباشر إلى أساليب أكثر دهاءً، مثل تهميش العلوم الإنسانية وتحويلها إلى مجرد تخصصات جامعية بلا أثر حقيقي، أو تشجيع الأبحاث السوسيولوجية “المحايدة” التي تكتفي بالإحصاءات دون تحليل البنى العميقة. فالسلطة لا تمانع في وجود علم اجتماع تقني يقدم أرقاماً جافة، لكنها تقاوم بشراسة أي محاولة لربط تلك الأرقام بسياسات الظلم والاستغلال.

اليوم، ومع انفجار وسائل التواصل وبروز حركات احتجاجية جديدة، يعود السؤال حول دور السوسيولوجيا النقدية في البلاد هل يمكنها أن تكون أداة لتغيير وعي القطيع، أم أن النظام نجح بالفعل في تحييدها؟ الجواب قد يكون في إعادة الروح الثورية لهذا العلم، ليس كمجرد مادة أكاديمية، بل كأداة مقاومة يومية. لأن المغرب الجديد لن يُبنى بالصمت، بل بجرأة من يسألون، من يملك الثروة؟ وقد سبق وقالها ملك البلاد مدوية، أين الثروة؟! ومن يتحكم في القرار؟ ولماذا لا نزال نعيش في مجتمع اللامساواة؟

فالدرس المستفاد من إغلاق معهد علم الاجتماع عام 1970 في الرباط هو أن السلطة تخشى المعرفة أكثر مما تخشى الشعارات. وإذا كان النظام قد أغلق باباً واحداً، فإن التاريخ يثبت أن الأفكار لا تُقمع إلى الأبد. فالسوسيولوجيا النقدية، وإن حاولوا ترويضها، تبقى سلاحاً في يد من يرفضون أن يكونوا مجرد أرقام في سجل الطاعة أو حملا وديعا في قطيع يخشى من خيال عصى الراعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!