
المصطفى الجوي – موطني نيوز
في غمرة الصخب السياسي وضجيج المنابر الإعلامية، حيث تتلاطم أمواج التصريحات وتتداخل الأدوار، يغيب عن الأذهان جوهر الدولة وروحها الحقيقية. فكثيراً ما يتبادر إلى الذهن أن المسؤولية تقتصر على أولئك الذين يعتلون سدة البرلمان أو يترأسون جماعات محلية أو حتى يديرون دفة الحكومة. لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير، وأكثر تجذراً في بنية الدولة ومؤسساتها. إن هؤلاء، وإن كانوا يشغلون مناصب رفيعة، ليسوا سوى منتدبين عابرين، تتغير وجوههم وتتبدل مواقعهم مع كل استحقاق انتخابي أو تعديل حكومي. هم واجهة مرحلية تعكس تطلعات فترة زمنية محددة، ولا يمثلون بأي حال من الأحوال الثقل الحقيقي للدولة، ولا يعكسون صورتها الدائمة التي تتجاوز تقلبات السياسة وتغيرات الأشخاص.
إن المسؤول الحقيقي الذي نتحدث عنه هنا، هو ذلك الذي يباشر مهامه من داخل مكتبه، قد يكون مكيفاً أو لا، لكنه مكتب يمثل امتداداً لسلطة الدولة وهيبتها. هو ليس بالضرورة من يظهر في الواجهة الإعلامية أو يخطب في الجموع، بل هو من يمثل وجه الدولة ويعكس صورتها داخل أوساط المواطنين وأمام الأوساط السياسية والحزبية على حد سواء. أتحدث عن أولئك الذين يُعتبرون ركائز الدولة التي لا تتزعزع، يحملون همّها الثقيل ويضبطون توازنها الدقيق ويفرضون سلطتها وحكامتها بكل حزم واقتدار. إنهم يمثلون جلالة الملك في كل تفاصيل عملهم، داخل مكاتبهم وفي كل شبر من نفوذهم الترابي.
من القائد الذي يدير شؤون القرية إلى الباشا الذي يسهر على أمن المدينة، مروراً بالعامل والوالي اللذين يمثلان السلطة المركزية في الأقاليم والجهات، وصولاً إلى الإدارة المركزية لوزارة الداخلية التي تشكل العمود الفقري للإدارة الترابية. ولا يقتصر الأمر على الإدارة الترابية فحسب، بل يمتد ليشمل ضباط الدرك الملكي وقادتهم الذين يسهرون على تطبيق القانون وحفظ الأمن في ربوع الوطن، والمسؤولين القضائيين من نواب وقضاة، وصولاً إلى رئيسي النيابة العامة والسلطة القضائية، الذين يمثلون صمام الأمان للعدالة وحماية الحقوق والحريات. هؤلاء هم حماة الدولة وسدنتها، وهم من يجسدون هيبتها وسلطانها في عيون المواطنين.
إن هؤلاء المسؤولين، بحكم طبيعة مهامهم وحساسية مواقعهم، لا يُحتمل فيهم الخطأ ولا يُغفر لهم التهاون. فهم يمثلون أجهزة قوية وحساسة لها ارتباط متفرع ومباشر بجميع شؤون المواطنين، من أبسط الخدمات الإدارية إلى أعقد القضايا الأمنية والقضائية. هم حقاً يمثلون الدولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ويلخصون صورتها ويختزلون سياستها وتوجهها العام. فإذا ما ضعف هؤلاء أو تهاونوا في أداء واجبهم أو خضعوا لضغوطات خارجية، فإن الدولة بأكملها تضعف مباشرة وتتهاوى صورتها وتفقد سلطتها المركزية وتفقد توحدها وإجماعها.
وهذا ما نخشاه ونراه يتجلى في بعض الأحيان، حينما تضعف هذه الأجهزة أمام الفئة الأخرى العابرة من المنتخبين الذين يفتقرون في كثير من الأحيان إلى الحس الوطني العميق ويهتمون بمصالحهم الشخصية أو الحزبية الضيقة. وحينما تضعف أمام أصحاب الوجاهة والمال والأعمال الذين يستخدمون نفوذهم وثرواتهم للتأثير على القرارات وتوجيهها بما يخدم مصالحهم الخاصة، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامة. وحينما تضعف أمام النافذين من الوزراء والبرلمانيين الذين أصبح العديد منهم أباطرة متحكمين، يمتلكون شبكات واسعة من العلاقات والمصالح ويفرضون إرادتهم على مؤسسات الدولة ويخترقون قوانينها ويتحكمون في مساراتها.
إن هذا التغول وهذا الاختراق للمجال السياسي من قبل رجال الأعمال والمنتخبين أصبح يشكل تهديداً حقيقياً للدولة وانقلاباً ناعماً على سلطتها وهيبتها. فالدولة التي يفترض أن تكون قوية وموحدة تصبح مشتتة تحت رحمة إمبراطوريات هؤلاء، وتفقد قدرتها على فرض القانون وتطبيق العدالة وحماية حقوق المواطنين. لقد أثبتت التجارب التاريخية في مختلف بقاع العالم أن الدول التي تضعف فيها مؤسساتها الأساسية وتتغول فيها المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة، هي دول محكوم عليها بالاضمحلال والتفكك.
فالدولة ليست مجرد حدود جغرافية أو نظام سياسي، بل هي كيان حي يتغذى على الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم وعلى احترام القانون وعلى الشعور بالانتماء والعدالة. وعندما تتآكل هذه الأسس وتصبح الدولة مرتعاً للفاسدين ومسرحاً لتصفية الحسابات، فإن المواطن يفقد إيمانه بها ويتحول ولاؤه إلى جهات أخرى قد تكون أقل شرعية أو أكثر خطورة. وهذا ما يفسر تزايد حالات الاحتقان الاجتماعي وتنامي الشعور بالظلم وتراجع منسوب الثقة في المؤسسات الرسمية.
لذلك أصبح لزاماً على الدولة أن تستجمع قواها وأن تستعيد شرعيتها وسلطاتها الدستورية التي كفلها لها الدستور. يجب أن تعيد الاعتبار لمؤسساتها الأساسية وأن تجعل القضاء مستقلاً استقلالاً تاماً لا يخضع لأي ضغوطات أو تأثيرات، ليكون الملاذ الأخير للمواطنين وحامي الحقوق والحريات. ويجب أن تجعل مؤسسات الحكامة التي أنشئت لضمان الشفافية والنزاهة والمساءلة فوق سلطات رئيس الحكومة، لتكون رقيباً حقيقياً على الأداء الحكومي والإداري وتضمن عدم الانحراف عن المسار الصحيح.
والأهم من ذلك كله، يجب أن تسحب البساط من تحت أرجل الفاسدين وأن تحاسبهم بكل حزم وصرامة مهما كانت مواقعهم أو نفوذهم. فالمحاسبة هي السبيل الوحيد لاستعادة الثقة وإعادة بناء جسور التواصل بين الدولة والمواطن. إن المواطن الذي يرى الفساد يتفشى والمسؤولين يتهاونون يفقد ثقته في مؤسسات الدولة ويشعر بالإحباط واليأس. ولكن عندما يرى أن الدولة جادة في محاربة الفساد وأنها لا تفرق بين كبير وصغير، فإن ثقته تعود إليها ويشعر بالانتماء والولاء لوطنه.
إن استعادة الدولة لقوتها لا تعني بالضرورة اللجوء إلى القوة المفرطة أو القمع، بل تعني استعادة الشرعية الدستورية وتفعيل آليات المحاسبة والمساءلة وتطبيق القانون على الجميع دون استثناء. إنها تعني بناء دولة المؤسسات التي يكون فيها القانون هو السيد والعدل هو الأساس والشفافية هي المبدأ. وهذا يتطلب إرادة سياسية قوية وشجاعة في اتخاذ القرارات الصعبة وتضحية بالمصالح الشخصية الضيقة من أجل المصلحة العليا للوطن.
إن المسؤولية تقع على عاتق الجميع، من أعلى هرم السلطة إلى أبسط مواطن. فالدولة ليست مجرد حكومة أو إدارة، بل هي مشروع مجتمعي مشترك يتطلب تضافر جهود كل مكوناته. وعلى المسؤولين الذين يمثلون وجه الدولة أن يكونوا قدوة في النزاهة والشفافية وأن يضعوا المصلحة العامة فوق كل اعتبار. وعليهم أن يكونوا على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقهم وأن يدركوا أن أي تهاون أو فساد منهم هو طعنة في صميم الدولة وتهديد لمستقبل الوطن.
هذا رأي الخاص كمواطن مغربي و كمتتبع لما يقع في بلادي في الآونة الآخيرة و ليس دعوة للتشاؤم، بل هو دعوة للتأمل العميق في واقعنا وللعمل الجاد من أجل مستقبل أفضل. إن الدولة المغربية بتاريخها العريق ومؤسساتها الراسخة وشعبها الأبي قادرة على تجاوز كل التحديات واستعادة مكانتها الريادية. لكن ذلك يتطلب يقظة مستمرة ومحاسبة صارمة وإرادة قوية في الإصلاح. إن المسؤول الذي يجلس في مكتبه المكيف أو في أي مكان آخر ليس مجرد موظف، بل هو جزء لا يتجزأ من هذا المشروع الوطني الكبير. وعليه أن يدرك أن كل قرار يتخذه وكل إجراء يقوم به ينعكس بشكل مباشر على صورة الدولة وعلى ثقة المواطنين. فليكن كل مسؤول في موقعه حارساً أميناً على هذا الوطن ومدافعاً شرساً عن مصالحه ومجسداً حقيقياً لقيم العدل والنزاهة، لا خادما لسياسي والمنتخب وحامي مصالح المال و الاعمال لان جميعهم راحلون وتبقى انت أيها المسؤول “وجه الدولة الحقيقي”. عندها فقط يمكن للمملكة أن تستمر في مسيرتها نحو التقدم والازدهار وأن تظل وطناً آمناً ومستقراً ينعم فيه الجميع بالرخاء والكرامة.