
المصطفى الجوي – موطني نيوز
في جوف ليلةٍ صاخبة، حيث تتراقص أضواء المدينة على وجوه الساهرين وتختلط أصوات الموسيقى بضحكات زائفة، كان “بدر” الملياردير الشهير، يبحث عن مهرب مؤقت من روتين حياته المنظم. كان يملك كل شيء ثروة لا تُحصى، زوجة جميلة، وأبناء هم قرة عينه. لكن في تلك الليلة، قاده شعور بالتمرد إلى أحد الملاهي الليلية الفاخرة، وهناك، في زاوية معتمة، رأى “أسيل”.
لم تكن أسيل مجرد امرأة جميلة، بل كانت هالة من الغموض تمشي على قدمين. كانت عيناها تحملان بريقاً غريباً، مزيجاً من الألم والتحدي، وكانت حركاتها محسوبة بدقة كأنها فنانة تؤدي دوراً متقناً. لم يكن بدر يعلم أن خلف هذا القناع، تقبع نفسٌ مضطربة، تتغذى على كسر الآخرين لترميم شروخها الداخلية.
اقترب منها، وبدأت الليلة التي ستغير حياته إلى الأبد. كانت كلماتها كالعسل المسموم، وسحرها يتسلل إلى عقله كالأفيون. في تلك الليلة الماجنة، لم تكن أسيل تبحث عن المال فقط، بل كانت تبحث عن فريسة تليق بحجم جراحها. وجدت في بدر ضالتها المنشودة رجل قوي، ناجح، ومتزوج…هدف مثالي لممارسة لعبتها المدمرة.
منذ تلك الليلة، بدأت أسيل في نسج خيوطها حول بدر. لم تكن مجرد عشيقة لليلة واحدة، بل تحولت إلى ظل يلاحقه. كانت تتصل به في أوقات غير متوقعة، تظهر في أماكن يرتادها، وتهمس في أذنه بكلمات تجعله يشعر بأنه لم يكن حياً قبل أن يلتقيها. كانت كأفعى الأرملة السوداء، تتلوى حوله بنعومة قاتلة، تغريه بجمالها بينما تحقن سمها في وريده ببطء.
بدأ بدر يتغير. أصبح يتأخر عن منزله وحتى عمله، ثم بدأ يختلق الأعذار لزوجته التي شعرت بأن زوجها يضيع منها. لم يعد ذلك الرجل الذي تعرفه، بل أصبح شخصاً غريباً، شارد الذهن، وقلقاً وعصبيا. لم يعد يرى في بيته سوى سجن وفي زوجته سجّاناً، بينما كانت أسيل هي الحرية المطلقة التي طالما حلم بها.
لم تكتفِ أسيل بإبعاده عن زوجته وأبنائه، بل أرادت أن تمحو وجودها تماماً. غرست مخالبها في حياته الأسرية، وبدأت في تسميم أفكاره ضد عائلته. أقنعته بأن زوجته لا تفهمه، وأن أبناءه لا يقدرونه، وأنها هي الوحيدة التي ترى جوهره الحقيقي.
وفي خطوة شيطانية، أحاطته بمجموعة من الانتهازيين والوصوليين الذين قدمتهم له على أنهم “أصدقاء مخلصون” و “خدام أوفياء”. كانوا في الحقيقة عيونها وآذانها، ينقلون لها كل صغيرة وكبيرة، ويزينون لها قراراتها في عينيه بل منهم من كان مختص بأمور الشعودة والسحر المأكول والمشروب وحتى المرشوش و المدفون. أصبح عالمه دائرة مغلقة تديرها أسيل من خلف الستار.
مع مرور الوقت، سقط بدر في دوامة أعمق. أدخلته أسيل إلى عالم الشعوذة والسحر، وأقنعته بأن نجاحه وثروته بحاجة إلى “حماية” من أعدائه، وعلى رأسهم زوجته. أصبح ينفق أموالاً طائلة على طقوس غريبة وأحجبة لا معنى لها، وكل ذلك تحت إشرافها. تحولت حياته إلى سلسلة من الليالي الماجنة والحفلات الصاخبة التي لا تنتهي، حيث كان محاطاً بأشخاص لا يعرفهم، لكنهم جميعاً كانوا من اختيارها.
أصبحت أسيل هي الآمر الناهي في حياته. لم يعد يتخذ قراراً دون استشارتها، بل أصبح يمتثل لتعليماتها كأنه دمية بين يديها. سيطرت على أمواله، علاقاته، وحتى أفكاره. لقد ألغت شخصيته تماماً، وحولته إلى مجرد تابع ينفذ رغباتها.
كانت النهاية مأساوية كما خططت لها. بعد أن استنزفت جزءاً كبيراً من ثروته ودمرت سمعته، ورطته في صفقات مشبوهة ومعاملات مالية غير قانونية كانت هي العقل المدبر لها. وعندما حانت اللحظة المناسبة، تراجعت عنه بخطوات.
وجد بدر نفسه وحيداً في مواجهة اتهامات بالفساد والاحتيال وتبييض الأموال. لم تكن أسيل بجانبه لتدافع عنه، بل اختفت وهذه هي عادتها دائما كأنها لم تكن موجودة قط، ومعها اختفى كل “الأصدقاء” الذين أحاطتهم به. في قاعة المحكمة، بدا كرجل محطم، لا يفهم كيف وصل إلى هذا المصير. حُكم عليه بالسجن، وانتهى به المطاف خلف القضبان.
ورغم أن جسد بدر كان حبيس زنزانة باردة بتهم ثقيلة، بقيت روحه أسيرة لأسيل. استمرت العاهرة في التصرف بما تبقى من ثروته، مستغلة توكيلات كان قد وقعها لها في أوج عشقه الأعمى. كانت تدير إمبراطوريته المنهارة من بعيد، تبيع وتشتري، وتعيش حياة البذخ على أنقاض حياته.
وبالخبث الذي وضعه الله في ذلك الجسد المتهالك، الذي لم يعد يتذوق طعم النوم إلا بالاستعانة بالأدوية، استطاعت أن تنفث سمها في كل من حولها. كانت كائناً ساماً بطبيعتها، فبيئتها التي نشأت فيها كانت متعفنة، وأصلها مكروه، ودمها ملوث بالمرارة والحقد. لم تعرف يوماً معنى الأسرة السليمة، فكان تدمير الأسر هو انتقامها من القدر.
لكن القدر كان يخبئ لها فصلاً أخيراً. ذات صباح، وصل خبر من السجن توفي بدر بنوبة قلبية حادة. مات وحيداً، محطماً، وهو لا يزال يحمل اسمها في قلبه كوشم من نار.
بموت بدر، انقلبت الأحداث رأساً على عقب. بدأت التحقيقات في ثروته تأخذ منحى جديداً، وظهرت الوثائق التي تدين أسيل بالاستيلاء على أمواله بطرق غير مشروعة وتورطها في مجموعة من الاعمال الفاسدة فساد قلبها. فجأة، وجدت نفسها مطاردة من قبل السلطات ومن قبل ورثة بدر الشرعيين.
لكن ضربة القدر كانت أقسى من أي محكمة. في خضم هذه الفوضى، سقطت أسيل مغشياً عليها. وبعد فحوصات طبية، جاء التشخيص كالصاعقة سرطان خبيث في مرحلة متقدمة يجري داخل عروقها. المرض الذي كان ينهش روحها بالحقد، بدأ الآن ينهش جسدها بلا رحمة فهو يجري في مجرى الدم.
تحولت حياتها إلى جحيم. المال الذي كدسته لم يعد قادراً على شراء يوم واحد من الصحة. وعائلتها المتعفنة التي كانت تسندها في خبثها، تخلت عنها كما تخلت هي عن بدر قبلها لانه بالنسبة لهم منبع المالن. أصبحت وحيدة، تتلوى من الألم في فراش المرض، تماماً كما كان بدر يتلوى من ألم الخيانة في زنزانته.
لم يعد ينفعها مال ولا عائلة. كانت تنظر إلى سقف غرفتها الفاخرة، وترى وجه بدر في كل زاوية، وتسمع صدى ضحكاته التي سرقتها منه. أدركت متأخرة أن السم الذي حقنته في حياة الآخرين، كان يدور في عروقها طوال الوقت. وهكذا، انتهت قصة الأرملة السوداء وبالمناسبة فالأرملة السوداء هي نوع من الأفاعي السامة الخطيرة، ليس بالنصر الذي خططت له، بل بنهاية بائسة كتبتها يد العدالة الإلهية. اللهم لا شماتة.