
المصطفى الجوي – موطني نيوز
بين لقمة العيش وغاية الوجود، تتجلى مفارقة عميقة تحكم مسار الكينونة البشرية على هذه الأرض التي استُخلفنا فيها. فمنذ الأزل، انقسم البشر بين من يأكل ليعيش، ومن يعيش ليأكل، وفي هذا الانقسام تتشابك وتتعارض أسمى معاني الوجود وأهداف الإعمار. إنها ليست مجرد معادلة بيولوجية بسيطة، بل هي فلسفة حياة تعكس أولويات الفرد والمجتمع، وتحدد مدى إدراكنا للمغزى الحقيقي من وجودنا.
لقد أُمرنا في ديننا الحنيف بـ (كلوا واشربوا)، وهو أمر إلهي تكرر في صيغ مختلفة من آيات القرآن الكريم، كل حسب سياقه. لكننا، كأمة مسلمة مرجعها الكتاب والسنة، يبدو أننا لم نأخذ من هذا الأمر إلا ظاهره، فغفلنا عن جوهره ومقصده الأسمى. لم نتحرَّ عن طبيعة المأكل والمشرب إن كان حلالاً أم حراماً بالقدر الكافي، ولم نُعِر اهتماماً للغاية الميكانيكية من أمعائنا في الإبقاء على ذواتنا وأفئدتنا لما هو أسمى وأجل. لقد استحوذ علينا هاجس ملء البطون، فصرنا شعباً مستهلكاً بامتياز، حولنا كل تعبنا وأرزاقنا، بل ونعم الله علينا، إلى مجرد نفايات صلبة غير قابلة حتى للتدوير. إنها مأساة حقيقية أن تتحول مقدرات أمة إلى مجرد استهلاك لا يترك أثراً، ولا يساهم في بناء أو إعمار.
إن الشعوب المقهورة، التي تُجيد فن التنويم، لا تثور إلا حين يشتد بها الجوع. ولكن المفارقة المؤلمة تكمن في أنها تعيش القهر وتتحمل الظلم من أجل أن تشبع. بل إنها تمارس أنواعاً من الظلم على بعضها البعض في سبيل لقمة العيش، فيتحول كل فرد فيها إلى تاجر أزمات، مستغلاً للظرفيات، ومقتنصاً لحاجة الغير لما هو بين يديه ومتوفر لديه، أو لما يمكن أن يقدمه من خدمات.
لقد برزت في مجتمعاتنا ظواهر عديدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا الاستغلال الانتهازي لما هو تحت اليد وتحت التصرف، ولما يمكن أن يعرضه ويقدمه كل منا للمستهلك.
رأينا الشناقة ولفراقشية وسماسرة الانتخابات والقروض، وسماسرة المحاكم وشواهد الماستر، وغيرها الكثير من الظواهر التي تتغذى على ضعف الآخر وحاجته. كل هذه الظواهر لها جذع مشترك مع الجشع والاحتكار، الذي لا يقتصر على الجانب المادي فحسب، بل يمتد ليشمل مناحي السلطة والحظوة، وصكوك الوطنية، والتوظيفات والمناصب التي لا تبرح دائرة الأقرباء ثم أقارب الأقرباء.
كل يستغل سلطته فيما هو بين يديه، وكل يجهد نفسه ويحمل من حطب الدنيا ما لا يتعدى مريئه، مهما بلغ من الشطارة والمكانة الاجتماعية. إنها دائرة مفرغة من الاستغلال والجشع، تحول دون تحقيق الغاية الأسمى من وجودنا على هذه الأرض، وتُعيق مسيرة الإعمار الحقيقي.