
المصطفى الجوي – موطني نيوز
إن تداعيات هذا الوضع تتجاوز بكثير مجرد التأثير على قضايا جنائية محددة، لتمتد وتضرب في صميم العقد الاجتماعي الذي يربط المواطن بالدولة. فعندما يفقد المواطن ثقته في قدرة الدولة على حمايته، وعندما يشعر بأن مؤسساتها الأمنية قد تكون هي نفسها مصدراً للخطر، فإن ولاءه لهذه الدولة ومؤسساتها يتآكل تدريجياً.
يبدأ المواطن بالبحث عن بدائل، قد تكون في الانتماء إلى جماعات خارجة عن القانون توفر له حماية زائفة، أو في اللجوء إلى العنف الفردي للدفاع عن نفسه، أو في الاستسلام لليأس والسلبية والانعزال عن الشأن العام. كل هذه السيناريوهات تشكل خطراً داهماً على استقرار المجتمع وتماسكه.
إن الدولة التي لا تستطيع أن تضمن أمن مواطنيها الشرفاء هي دولة تفقد شرعيتها تدريجياً، وتفتح الباب أمام الفوضى والتطرف. إن بناء الثقة يتطلب سنوات من العمل الجاد والنزيه، ولكن هدمها قد يتم في لحظات قليلة بسبب سلوكيات طائشة أو تواطؤ مشين. إن المسؤولية الملقاة على عاتق الدولة المغربية اليوم هي إعادة بناء هذه الثقة المفقودة، وهذا لن يتم إلا من خلال تغيير جذري في السياسات والممارسات المتعلقة بحماية المبلغين والشهود.
ولننظر إلى تجارب دول أخرى، حتى تلك التي لا ندعي أنها مثالية، ولكنها على الأقل قطعت أشواطاً في بناء أنظمة حماية للمبلغين والشهود أكثر فعالية. في العديد من الديمقراطيات الراسخة، توجد هيئات مستقلة أو وحدات متخصصة داخل أجهزة الأمن والقضاء، تتمتع بصلاحيات واسعة وموارد كافية لتوفير الحماية اللازمة، بدءاً من تغيير الهوية وتوفير المأوى الآمن، وصولاً إلى المساعدة القانونية والنفسية والاجتماعية.
لانه لا يتم التعامل مع المبلغ كحالة فردية معزولة، بل كجزء من برنامج متكامل يهدف إلى ضمان سلامته وتشجيعه على التعاون المستمر مع أجهزة العدالة. يتم تدريب رجال الأمن والقضاة بشكل مكثف على أهمية السرية وخطورة تسريب المعلومات، وتوجد عقوبات صارمة ورادعة لكل من يثبت تورطه في تعريض المبلغين للخطر. بالطبع، لا تخلو هذه الأنظمة من ثغرات وتحديات، ولكنها على الأقل تعكس إرادة سياسية واضحة والتزاماً مؤسسياً بمبدأ حماية من يخدمون العدالة.
وبالتالي أين نحن من كل هذا؟ إن القانون المغربي رقم 37.10، رغم أهميته كخطوة أولى، يبدو قاصراً في تفاصيله وآليات تطبيقه مقارنة بهذه التجارب. إنه يفتقر إلى الوضوح في تحديد الجهة المسؤولة بشكل مباشر عن توفير الحماية، ولا يحدد بدقة طبيعة هذه الحماية ومستوياتها المختلفة، كما أنه لا يضع آليات مساءلة شفافة وقوية للمقصرين أو المتواطئين. إن المقارنة ليست بهدف جلد الذات، بل بهدف الاستفادة من تجارب الآخرين، وتحديد نقاط الضعف في نظامنا الحالي، والمطالبة بتطويره ليرقى إلى مستوى التحديات والمخاطر التي يواجهها المبلغون في المغرب.
إن استمرار الوضع الحالي لا يمثل فقط فشلاً أمنياً وقانونياً، بل هو أيضاً فشل أخلاقي ذريع. كيف يمكن لمجتمع أن يدعي التمسك بقيم الحق والعدل والنزاهة، وهو يتخلى عن أبنائه الشرفاء الذين يرفعون صوتهم ضد الظلم والفساد؟ كيف يمكن لدولة أن تطمح إلى التقدم والازدهار، وهي تسمح لسرطان الفساد بأن ينخر في جسدها دون مقاومة حقيقية؟ إن حماية المبلغين ليست مجرد إجراء تقني أو قانوني، بل هي قضية مبدأ وقيم.
إنها تعكس مدى احترام الدولة لحقوق مواطنيها، ومدى جديتها في مكافحة الجريمة والفساد، ومدى التزامها ببناء مجتمع يسوده القانون والعدالة. لأن التضحية بالمبلغين على مذبح المصالح الضيقة أو الخوف من كشف المستور هو بمثابة إعلان إفلاس أخلاقي وقانوني. إن المواطن الذي يرى كيف يتم التعامل مع من سبقوه في التبليغ، لن يتردد في اختيار الصمت والانكفاء، ليس جبناً، بل حفاظاً على سلامته وسلامة أسرته في ظل غياب أي ضمانات حقيقية. وهذا الصمت، كما أسلفنا، هو أخطر ما يهدد مستقبل هذا الوطن، لأنه يترك المجال مفتوحاً أمام قوى الشر والفساد لتعيث في الأرض فساداً دون حسيب أو رقيب. والأمثلة كثيرة.
إن المسؤولية تقع على عاتق النخب السياسية والقانونية والإعلامية والمجتمعية، لرفع الصوت عالياً والمطالبة بإصلاحات جذرية وحقيقية تضمن حماية فعالة للمبلغين، وتضع حداً لهذا الاستهتار بأمنهم ومصالحهم. يجب أن تتحول قضية حماية المبلغين إلى قضية رأي عام، وأن تمارس الضغوط اللازمة على أصحاب القرار لاتخاذ الإجراءات المطلوبة دون تأخير أو تسويف. إن الوقت ليس في صالحنا، وكل يوم يمر دون تغيير حقيقي هو بمثابة خسارة جديدة في معركتنا ضد الجريمة والفساد، وطعنة أخرى في قلب الثقة المفقودة بين المواطن والدولة.