
المصطفى الجوي – موطني نيوز
إن التحدي كبير وعظيم، والمقاومة من داخل بعض الجيوب الفاسدة أو المتقاعسة قد تكون شرسة وعنيدة، ولكن لا خيار أمام الدولة إلا المواجهة والحسم. إن ترك الأمور على ما هي عليه يعني الاستسلام للجريمة والفساد، ويعني التضحية بمستقبل أجيال قادمة تستحق أن تعيش في وطن يسوده القانون والعدالة والأمان الحقيقي.
إن المواطن المغربي الذي يطالب بحقه في الحماية عندما يبلغ عن جريمة، لا يطلب معجزة أو امتيازاً خاصاً، بل يطلب الحد الأدنى من واجبات الدولة الأساسية تجاهه. إنه يطالب بأن يكون القانون هو السيد المطلق، وأن تكون المؤسسات في خدمته وحمايته، لا ضده أو متواطئة عليه.
فهل ستلتقط المديرية العامة للأمن الوطني هذه الصرخة المدوية وهذا النداء اليائس؟ هل ستثبت للمواطنين أنها بالفعل في خدمتهم، وأنها قادرة على حماية الشرفاء وتطهير صفوفها من المفسدين والمتواطئين؟ إن الأيام القادمة كفيلة بالإجابة على هذه الأسئلة المصيرية، ولكن الأمل يظل معقوداً على أن تنتصر إرادة الإصلاح والحزم، وأن يعود الأمان ليخيم على ربوع هذا الوطن، وأن يشعر المواطن بأن صوته مسموع، وأن شهادته مصونة، وأن الدولة تقف بجانبه في معركته العادلة ضد الظلم والجريمة.
إن لم يحدث ذلك، فإننا سنكون أمام أزمة ثقة عميقة يصعب رأب صدعها، وسنكون قد حكمنا على أنفسنا بالعيش في مجتمع يسوده قانون الغاب، حيث القوي يأكل الضعيف، وحيث لا مكان للشرفاء والمبلغين عن الحقيقة. إن المسؤولية الملقاة على عاتق القيادة الأمنية والسياسية في المغرب جسيمة، والتاريخ لن يرحم المتقاعسين أو المتواطئين. لقد حان وقت العمل الجاد والحاسم، لا وقت التبريرات الواهية أو الوعود المعسولة الكاذبة. إن أمن الوطن والمواطن خط أحمر لا يمكن تجاوزه، والتفريط فيه خيانة عظمى لا تغتفر.
إن الأثر النفسي المدمر الذي يتركه غياب الحماية على المبلغين وعائلاتهم لا يمكن وصفه بكلمات. إنه ليس مجرد خوف عابر يزول مع الوقت، بل هو حالة من الرعب الدائم، والقلق المستمر الذي ينهش الروح، والترقب المؤلم لما قد يحمله الغد من تهديدات وانتقام وحشي. كيف يمكن لإنسان أن يعيش سوياً وهو يعلم أن كل معلومة قدمها بحسن نية لخدمة العدالة قد تحولت إلى سيف مسلط على رقبته ورقاب أحبائه؟ كيف ينام قرير العين وهو يتخيل وجوه المجرمين تتربص به في الظلام، أو يتوقع في كل لحظة أن يطرق بابه طارق لا يحمل خيراً؟ إنها حياة معلقة على حافة الهاوية، حياة مسلوبة الطمأنينة والسكينة، يتحول فيها البيت من ملاذ آمن إلى سجن كبير تحيط به أسوار الخوف والقلق.
يضاف إلى ذلك العزلة الاجتماعية القاتلة التي قد تفرض على المبلغ، فنظرات الشك والريبة قد تلاحقه حتى من جيرانه وأقربائه، منهم من يخشى الاقتراب منه اتقاءً لشر محتمل، ومنهم من يلومه على “تهوره” في تحدي قوى الشر والفساد، وكأنه هو المذنب لا الجاني. وقد يمتد الأثر ليشمل الحياة المهنية، فيجد المبلغ نفسه مطروداً من عمله أو مهمشاً، وتضيق به سبل العيش، وكأن المجتمع بأسره يعاقبه على شجاعته ونزاهته.
إن الدولة التي تسمح بحدوث ذلك لمواطنيها الشرفاء هي دولة تتخلى عن أبسط مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية، وتتركهم فريسة سهلة لوحوش الجريمة والفساد الذين لا يرحمون.
“تهوره” في تحدي قوى الشر والفساد، وكأنه هو المذنب لا الجاني. وقد يمتد الأثر ليشمل الحياة المهنية، فيجد المبلغ نفسه مطروداً من عمله أو مهمشاً، وتضيق به سبل العيش، وكأن المجتمع بأسره يعاقبه على شجاعته ونزاهته. إن الدولة التي تسمح بحدوث ذلك لمواطنيها الشرفاء هي دولة تتخلى عن أبسط مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية، وتتركهم فريسة سهلة لوحوش الجريمة والفساد الذين لا يرحمون.
ولا يمكن إغفال أن هذا الخلل لا يعود فقط إلى سلوكيات فردية معزولة لبعض رجال الأمن المنحرفين، بل هو غالباً ما يكون انعكاساً لمشاكل بنيوية أعمق داخل المنظومة الأمنية برمتها. إن ثقافة الإفلات من العقاب، التي تسمح للمخطئين والمتجاوزين بالاستمرار في مواقعهم دون محاسبة حقيقية، هي السم الذي يقتل روح المسؤولية والنزاهة. وعندما تغيب آليات الرقابة الداخلية الفعالة، أو تكون شكلية وغير مؤثرة، فإن الباب يفتح على مصراعيه أمام كل أشكال التجاوزات، بدءاً من الإهمال والتقصير، وصولاً إلى التواطؤ المباشر مع شبكات الجريمة والفساد.
كما أن نقص التدريب والتكوين المستمر حول أهمية حماية المبلغين والتعامل السري مع المعلومات، وعدم توفير الموارد الكافية للوحدات المفترض أنها متخصصة في هذه الحماية، كلها عوامل تساهم في ترسيخ هذا الواقع المرير. إن الحديث عن إصلاح حقيقي يتطلب شجاعة للاعتراف بهذه المشاكل البنيوية، وإرادة سياسية لمعالجتها من جذورها، لا مجرد حلول ترقيعية أو تغييرات شكلية لا تمس جوهر المشكلة. إن المقاومة الداخلية من قبل المستفيدين من الوضع الحالي قد تكون متوقعة، ولكن لا يمكن لأي إصلاح حقيقي أن ينجح دون مواجهة هذه المقاومة بحزم وقوة، ودون إعلاء مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار.