
المصطفى الجوي – موطني نيوز
إن تبرير رجل الأمن لسبب توقيف المجرم، أو إفشاء كونه يتحرك بناءً على إخبارية، ليس مجرد خطأ إجرائي بسيط أو سوء تقدير عابر، بل هو انعكاس لخلل أعمق وأخطر في الثقافة الأمنية السائدة لدى البعض، ثقافة قد تشوبها اللامبالاة أو الاستخفاف أو حتى التواطؤ. إنه يكشف عن استخفاف مروع بخطورة الموقف، وعدم إدراك للعواقب الوخيمة التي قد تترتب على مثل هذه السلوكيات اللامسؤولة. فالمجرم، بطبيعته، يبحث عن أي ثغرة، عن أي معلومة تمكنه من الإفلات من العقاب أو الانتقام ممن يهدد مصالحه الإجرامية.
وعندما يقدم له رجل الأمن هذه المعلومة الحساسة على طبق من ذهب، فإنه لا يخدم العدالة، بل يخدم الجريمة ويمكّنها. إن السرية في العمل الأمني ليست ترفاً أو خياراً يمكن الاستغناء عنه، بل هي ضرورة حتمية ومطلقة لضمان نجاح العمليات وحماية الأرواح والمصالح. والتفريط في هذه السرية، خاصة فيما يتعلق بهوية المبلغين، هو بمثابة حكم بالإعدام المعنوي، وربما الجسدي، على هؤلاء المواطنين الشجعان الذين وضعوا ثقتهم الغالية في جهاز الدولة. إن القانون رقم 37.10 جاء ليؤكد على أهمية هذه الحماية، ولكن يبدو أن روح القانون لم تتغلغل بعد في عقول وممارسات كل من يفترض فيهم تطبيقه بحذافيره. لا يكفي أن تكون النصوص القانونية موجودة ومنمقة، بل يجب أن تكون هناك قناعة راسخة بأهميتها، وإرادة حقيقية لتفعيلها، وآليات صارمة لمحاسبة كل من يتهاون في تطبيقها أو يتحايل عليها.
إن عزوف المواطن عن الشهادة أو التبليغ لا يؤثر فقط على قضايا فردية معزولة، بل له تداعيات كارثية على مكافحة الجريمة المنظمة والفساد المستشري في مفاصل الدولة والمجتمع ككل. فهذه الجرائم، بطبيعتها المعقدة والمتشعبة وشبكاتها المتنفذة، غالباً ما تتطلب معلومات دقيقة وشهادات من الداخل لكشف خيوطها وتحديد المتورطين فيها وتقديمهم للعدالة. وعندما يخشى الموظف النزيه من التبليغ عن رئيسه الفاسد، وعندما يتردد المواطن في الشهادة ضد عصابة إجرامية تروع حيه وتهدد أمنه، فإننا نكون قد حكمنا على جهود مكافحة هذه الآفات الخطيرة بالفشل الذريع والمحقق.
إن المبلغين والشهود هم خط الدفاع الأول للمجتمع ضد قوى الشر والفساد والتخريب، وإذا لم نوفر لهم الحماية اللازمة والفعالة، فإننا نترك المجتمع أعزل تماماً في مواجهة هذه القوى المدمرة. إن كل عملية فساد تمر دون كشف، وكل جريمة منظمة تستمر دون ردع، هي نتيجة مباشرة لهذا الخوف وهذا التردد الذي زرعته الممارسات الأمنية الخاطئة وغياب الحماية الفعالة والملموسة.
إن المسؤولية هنا تاريخية وأخلاقية وقانونية، وتقع على عاتق الجميع، وخاصة القيادات الأمنية والسياسية، التي يجب أن تدرك أن بناء دولة قوية ومجتمع آمن لا يمكن أن يتم إلا من خلال استعادة ثقة المواطن وضمان حمايته الكاملة عندما يقرر أن يكون شريكاً فاعلاً في تحقيق العدالة ومحاربة الجريمة.
إن السؤال الملح الذي يطرح نفسه بإلحاح شديد هو: إلى متى سيستمر هذا الوضع الشاذ والمقلق؟ إلى متى سيظل المواطن المغربي يعيش تحت وطأة هذا الخوف المزدوج والمقيت: الخوف من الجريمة والخوف ممن يفترض فيهم حمايته منها؟ إن استمرار هذا الوضع لا يهدد فقط أمن الأفراد وسلامتهم، بل يهدد استقرار المجتمع بأكمله، ويقوض أسس الدولة الحديثة التي تسعى إلى بناء علاقة صحية وشفافة ومبنية على الثقة مع مواطنيها.
إن المديرية العامة للأمن الوطني مطالبة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بأن تتخذ خطوات جريئة وحاسمة لقطع دابر هذه الممارسات المشينة والمقوضة للثقة. لا يكفي إصدار بيانات تطمينية أو تنظيم حملات توعية شكلية، بل المطلوب هو ثورة حقيقية في العقليات والممارسات، ثورة تبدأ من أعلى الهرم القيادي وتصل إلى أصغر شرطي في الشارع. يجب أن تصبح حماية المبلغين والشهود ثقافة راسخة ومقدسة داخل المؤسسة الأمنية، وأن يُنظر إليهم كشركاء أساسيين وحلفاء استراتيجيين في تحقيق الأمن والعدالة، لا كعبء أو مصدر إزعاج يجب التخلص منه.
يجب أن تكون هناك آليات واضحة وفعالة لتلقي البلاغات بسرية تامة، وفرق متخصصة لتقييم المخاطر وتوفير الحماية اللازمة والمناسبة لكل حالة، والأهم من ذلك، نظام قضائي وإداري صارم لا يرحم لمحاسبة كل من يتورط في تعريض هؤلاء المواطنين للخطر. إن العقوبات السالبة للحرية والطرد من الوظيفة يجب أن تكون هي القاعدة، لا الاستثناء، لكل من يثبت تورطه في هذه الجرائم الأخلاقية والمهنية الشنيعة. إنها ليست مجرد مطالب شعبية عاطفية، بل هي ضرورة حتمية لاستعادة هيبة الدولة وثقة المواطن، ولضمان مستقبل آمن ومستقر للمغرب.