لماذا لا تحمي الشرطة المبلغين في المغرب؟ (الجزء الأول)

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

في دهاليز مجتمع يتآكله الخوف وتنهشه الريبة، يقف المواطن المغربي حائراً، متسائلاً بمرارة عن معنى الأمان في وطن يفترض أن يكون الملاذ والحصن المنيع. كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟ وكيف يطمئن القلب إلى مؤسسة أمنية، من المفترض أن تكون درعه الواقي وسيفه المسلول في وجه الجريمة، حين تتحول هي ذاتها، في سلوكيات بعض منتسبيها المارقة، إلى مصدر للخطر ونافذة ينفذ منها التهديد إلى عقر داره، مهدداً سلامته وسلامة أسرته؟ السؤال الصارخ الذي يتردد في أذهان الكثيرين، وإن همسوا به خوفاً أو جهروا به يأساً، هو: لماذا، بحق السماء، لا تحمي الشرطة في بلادنا المبلغين عن الجرائم؟ لماذا تتركهم نهباً للمجرمين، وتُعرض أمنهم الشخصي وأمن عائلاتهم لخطر محدق، وكأن التبليغ عن جريمة أصبح جريمة بحد ذاته يعاقب عليها القدر بتواطؤ ممن يفترض فيهم الحماية المطلقة؟ إنها ليست مجرد هواجس عابرة أو شكوك واهمة، بل هي حقيقة مرة تتجسد في قصص وروايات تتناقلها الألسن، وتؤكدها وقائع مؤسفة تزيد من اتساع الهوة السحيقة بين المواطن وجهاز أمنه.

كيف يمكن تفسير أن يقف رجل أمن أمام مجرم، وهو يعلم يقيناً أنه خارج عن القانون، ليبرر له سبب توقيفه أو استدعائه، وكأنه يقدم له اعتذاراً عن إزعاجه أو يطلعه على تفاصيل لا تعنيه، بل قد يستخدمها للانتقام الوحشي ممن وشى به؟ أليس هذا السلوك استهتاراً فاضحاً بالقانون نفسه، وتقويضاً ممنهجاً لهيبة الدولة، وإشارة خضراء للمجرم بأن له ظهيراً وسنداً حتى في قلب المؤسسة التي يفترض أن تطارده بلا هوادة؟ ثم يأتي التحجج الساذج، أو ربما الخبيث الماكر، بأن الشرطي مجرد منفذ لأوامر أو ناقل لإخبارية توصل بها، وكأن هذا يعفيه من مسؤولية الحفاظ على سرية مصدره المقدس. أليس هذا، في جوهره، إفشاءً فاضحاً للسر المهني، وخيانة للأمانة العظمى التي أقسم على صونها؟ إن حماية هوية المبلغ هي حجر الزاوية في أي نظام فعال لمكافحة الجريمة، وبدونها تنهار المنظومة بأكملها كبيت من ورق. كيف نتوقع من مواطن أن يتقدم بشهادة أو تبليغ وهو يرى بأم عينه كيف يتم التعامل مع معلوماته بسرية تكاد تكون معدومة، وكيف يمكن أن تتحول شجاعته في كشف الحقيقة إلى كابوس يطارده في يقظته ومنامه، ويهدد وجوده ذاته؟

إن هذا الواقع المرير، الذي يتجلى في تردد المواطنين بل وإحجامهم المتعمد عن الإدلاء بشهاداتهم أو التبليغ عن الجرائم التي يشهدونها أو يتعرضون لها، ليس وليد الصدفة العمياء. إنه نتيجة حتمية لتراكم خيبات الأمل المريرة، ولليقين الذي ترسخ في أذهان الكثيرين بأن بعض الفاسدين المتنفذين داخل أجهزة الأمن لن يتوانوا عن كشف هويتهم للمجرمين، إما إهمالاً وتقصيراً فادحاً، أو، وهو الأخطر والأدهى، تواطؤاً وفساداً وبيعاً للمعلومات في سوق النخاسة الأمنية الرخيصة.

لقد أصبح المبلغ في نظر البعض عبئاً ثقيلاً يجب التخلص منه، أو ورقة تافهة يمكن المساومة بها، بدلاً من أن يكون شريكاً أساسياً لا غنى عنه في تحقيق العدالة وصون أمن المجتمع. وعندما تصل الأمور إلى هذا الحد المزري، فإننا لا نتحدث فقط عن فشل في حماية فرد أو أفراد، بل عن انهيار ممنهج لثقة المجتمع في مؤسساته الحيوية، وعن فتح الباب على مصراعيه لتغول الجريمة واستشراء الفساد كالوباء.

إن القانون المغربي، وتحديداً التعديلات التي أدخلت على قانون المسطرة الجنائية بموجب القانون رقم 37.10 الصادر عام 2011، قد حاول، نظرياً على الأقل، معالجة هذه الإشكالية العويصة عبر التنصيص على حماية الضحايا والشهود والخبراء والمبلغين، خاصة في جرائم الفساد المالي والإداري كالرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ. لقد جاء هذا التشريع، كما قيل وقتها، ليعزز ضمانات المحاكمة العادلة ويشجع على التبليغ ويكافح ظاهرة الإفلات من العقاب المقيتة.

لكن، ويا للأسف الشديد، يبدو أن الفجوة بين النص القانوني الطموح والواقع العملي البائس لا تزال سحيقة وعميقة، وأن تلك الضمانات المكتوبة بحبر جميل بقيت في كثير من الأحيان حبراً على ورق، لا تجد طريقها إلى التطبيق الفعلي الذي يطمئن المواطن ويشجعه على التعاون الصادق. فما قيمة قانون لا يُفعّل، وما معنى حماية لا تُطبق؟ إنها مجرد مساحيق تجميلية رخيصة تخفي وجهاً شاحباً للحقيقة المرة، ووعود زائفة تزيد من مرارة الإحباط واليأس لدى المواطنين الشرفاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!