
المصطفى الجوي – موطني نيوز
لا يُنكِر عاقلٌ أن قضية منح الشهادات الجامعية بشكل غير مستحقٍّ هي جريمةٌ ليست فقط أكاديمية، بل هي اعتداء صارخ على مستقبل التعليم، ومؤسسات الدولة، ومصداقية الشهادة الجامعية التي يفترض أنها ضمانةٌ للكفاءة والعلم. لكن الخطر الأكبر في مثل هذه القضايا لا يكمن فقط في الفعل نفسه، بل في محاولة توجيه الأنظار نحو وجهٍ واحدٍ، وتحميله المسؤولية كاملةً، بينما تتناسى الأصواتُ العاليةُ سلسلةَ المسؤوليات الإدارية الطويلة التي تبدأ من الأساتذة المشرفين، وتنتهي عند أعلى الهرم الإداري في الجامعة والوزارة.
لقد حاولت بعض الأصوات حصرَ المسؤولية في شخصٍ واحدٍ، وكأن الأمر يتعلق بفردٍ خارقٍ للعادة، يستطيع أن يُنفِّذ عمليةً معقدةً مثل منح شهادات مزورة دون أن يكون وراءه نظام إداريٌ فاسدٌ، أو مسؤولون متغاضون، أو آليات رقابية مفقودة. وهذا التوجيه الانتقائي للاتهام ليس سوى محاولةٍ لتمويه الحقيقة، وتبرئةِ من يجب أن يقفوا في قفص الاتهام جنبًا إلى جنبٍ مع كل من تورط في هذه الجريمة المنظمة.
فإذا أردنا أن نبحث عن جذور المشكلة، فلا بد أن نبدأ من الأساتذة الذين أشرفوا على هذه الرسائل، سواءٌ كانوا زائرين أو من الجامعة نفسها. كيف قبل أساتذةٌ جامعيون أن يوقعوا على أبحاثٍ لا تستحق أن تكون مشاريع تخرج لطلبة الإجازة، فكيف برسائل الماستر؟ أين ضمير الأكاديمي الذي يفترض أن يكون حارسًا للعلم، لا شريكًا في تزييفه؟ ثم يأتي بعد ذلك دور منسق الشعبة، الذي يفترض أنه يتابع سير المناقشات والتقييمات، ورئيس الشعبة الذي يشرف على العملية برمتها. هل يعقل أن تمر عشرات الرسائل غير المستحقة دون أن يلحظوا شيئًا؟ أم أن الأمر كان يتم بموافقة ضمنية، أو حتى بتوجيهٍ مباشر؟
ثم نصل إلى الإدارة العليا في الكلية، بدءًا من نائب العميد للشؤون البيداغوجية، الذي يفترض أن يكون المسؤول الأول عن ضمان جودة الشهادات الممنوحة، وصولًا إلى العميد، الذي يمثل السلطة العليا في الكلية. كيف يُعقل أن تُمنح شهاداتٌ مزورةٌ دون أن يمر الأمر عبر هذه السلسلة الإدارية؟ أين كانت الرقابة؟ أين كانت التقارير التي تثبت جودة الأبحاث؟ أم أن التوقيع على الشهادات كان مجرد طقسٍ شكليٍّ لا قيمة له؟
ولا يمكن أن نتوقف عند هذا الحد، لأن رئيس الجامعة هو الشخص الذي يوقع في النهاية على الشهادات، وهو المسؤول الأول عن مصداقية المؤسسة التي يديرها. فإذا كانت الشهادات الممنوحة لا تستند إلى أي أساس علمي، فكيف وقع عليها؟ هل كان يوقع وهو مغمض العينين؟ أم أن الأمر كان يتم ضمن صفقاتٍ معينةٍ، أو تحت ضغوطٍ لا نعرفها؟ وكيف يمكن لرئيس جامعةٍ أن يكون غير مبالٍ بمصداقية الشهادات التي تخرج من مؤسسته؟
بل إن المسؤولية لا تقف عند حدود الجامعة، لأن وزارة التعليم العالي هي الأخرى شريكٌ في هذه الجريمة إن لم تتحرك بجديةٍ للكشف عن كل المتورطين. فإذا كانت هناك شهاداتٌ مزورةٌ تخرج من جامعةٍ ما، فهل قامت الوزارة بدورها الرقابي؟ هل تابعت شكاوى الطلبة أو الأساتذة؟ هل فرضت عقوباتٍ على من تورط في السابق؟ أم أن الفساد الإداري يمتد إلى أعلى الهرم، بحيث يصبح التستر على هذه الجرائم جزءًا من لعبةٍ أكبر؟
إن محاسبة فردٍ واحدٍ في هذه القضية لن تكون سوى مسرحيةٍ لإرضاء الرأي العام وتقديمه قربانا لحراس المعبد، بينما يفلت الفاسدون الحقيقيون من العقاب. فإذا كنا جادين في محاربة الفساد الجامعي، فلا بد أن تشمل التحقيقات كل من لمس الشهادات بأي شكلٍ، من الأساتذة المشرفين إلى رؤساء الشعب، إلى عمداء الكليات، إلى رؤساء الجامعات، وصولًا إلى المسؤولين في الوزارة. فالشهادة الجامعية لا تُمنح بقرارٍ فرديٍ، بل تمر عبر سلسلةٍ طويلةٍ من الإجراءات، وإذا كانت قد خرجت إلى النور دون استحقاق، فهذا يعني أن الفساد قد تسرب إلى كل هذه الحلقات.
إن ما حدث ليس خطأً عابرًا، بل هو انهيارٌ أخلاقيٌ لمؤسسةٍ يفترض أنها حارسة المعرفة. والخطورة لا تكمن فقط في تزوير الشهادات، بل في أن هذا التزوير تم تحت سمع وبصر كل هذه المستويات الإدارية، مما يعني أن الفساد أصبح نظامًا، لا مجرد حالةٍ فرديةٍ. لذلك، فإن أي محاسبةٍ لا تشمل كل هذا الهرم الإداري ستكون مجرد غطاءٍ لاستمرار الفساد، وسيصبح كل مسؤولٍ فيها مطمئنًا أنه إن ضُبط الأمر، فسيجد “بُدَلةً” يحمل عنها اللوم.
إننا أمام اختبارٍ حقيقيٍ لمصداقية الدولة في محاربة الفساد. فإما أن تكون المحاسبة شاملةً، وإما أن نعترف بأن الفساد قد انتصر.