
المصطفى الجوي – موطني نيوز
الحقيقةُ غاليةٌ، ثمينةٌ، لكنها ليست الوحيدة في السوق. هناك بضائع أخرى تُباع بثمنٍ أعلى، وتُشترى باندفاعٍ أكبر: الرأي العام، والإرث، والرموز. ثلاثة سحرةٍ يمتلكون عصاً سحريةً قادرةً على تحويل الباطل إلى حقٍّ مُسَلَّمٍ به، وعلى طمس الحقِّ حتى يُصبح مجردَ رأيٍ منبوذ. إنهم لا يحتاجون إلى دليلٍ ولا إلى برهان، بل يكفيهم أن يهزّوا أعوادهم فتسقط العقولُ سجدةً أمام أوهامهم.
أولُ هؤلاء السحرة هو “الرأي العام”، ذلك الوهم الجميل الذي نعتقد أنه صوت الحكمة، بينما هو في كثيرٍ من الأحيان مجرد صدى للجهل. الأغلبيةُ ليست حَكَماً عادلاً، بل هي كالسيل الجارف، يُزيل كلَّ ما يقف في طريقه دون أن يسأل : هل أنا على صواب؟ القرآنُ الكريمُ ضربَ المثلَ بقومٍ اتبعوا الأكثريةَ فوجدوا أنفسهم في الضلال : {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. كم من حقٍّ دُفن تحت رمال الرأي العام؟ وكم من باطلٍ ارتفع حتى صار كالجبال؟ الأغلبيةُ قد تُريحك من عناء التفكير، لكنها لن تُعفيك من عذاب الضلال.
أما الساحر الثاني فهو “الإرث والعادات”، ذلك السجنُ الوثيرُ الذي نعيش فيه مرتاحين، لأن جدرانه مبطنةٌ بذكريات الآباء والأجداد. “هكذا وجدنا آباءنا”، جملةٌ تختزل كلَّ عقلٍ وتُغلق كلَّ بابٍ للنقاش. فما بالك إذا جاءك أحدٌ وقال لك : هذا الذي تعتقده خطأ؟ ستثور في وجهه وتقول : ومن أنت حتى تُعلّمنا؟! لقد ردَّ القرآنُ على هذا الموقف بقصةٍ تكاد تكون ساخرةً لو لم تكن مُحزنة : {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}. انظر إلى هذا التعنت! حتى لو جاءهم اللهُ نفسُه بما هو أحسن، لرفضوه لأن آباءهم لم يعرفوه! هذا هو سحرُ التقاليد، يُعمي العيونَ ويُقفل العقولَ ويجعلُ الباطلَ مقدساً لمجرد أنه قديم.
وأما الساحر الثالث، فهو أخطرهم جميعاً : “الرموز والقادة والكبراء”. إنهم أولئك الذين نمنحهم عقولنا على طبقٍ من فضة، ثم نلومهم بعد ذلك عندما يضلون بنا الطريق! {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}. كم هو مريحٌ أن تتبعَ من لا تُحاسب، وأن تُسلم عقلك لشخصٍ تظنه أعلم منك! لكن القرآنَ يُسقط هذه الحجةَ بعنف : {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}. لماذا الضعفان؟ لأنهم لم يكتفوا بضلالهم، بل أضلوا غيرهم. لأنهم حوّلوا الباطلَ إلى مُسلَّماتٍ بسلطةِ أسمائهم. لأنهم جعلوا من أنفسهم آلهةً صغيرةً يُطيعها الناسُ دون سؤال.
والعجيبُ أن هؤلاء السحرةَ الثلاثة يعملون معاً في تناغمٍ تام. فإذا أردت أن تجعل الباطلَ حقاً، ما عليك إلا أن تجعله رأياً عاماً، أو تربطه بعادةٍ قديمة، أو تدفع به على لسانِ رمزٍ كبير. حينها سيُصبح الباطلُ “مقدساً” بلا نقاش. أما الحق؟ فسيُوصم بالغرابة، أو بالخروج على المألوف، أو بعدم الاحترام!
لكن القرآنَ يُذكرنا بأن الحقَّ والباطلَ ليسا أرقاماً في استطلاع رأي، ولا أسماءً في قائمةٍ من المشاهير، ولا عاداتٍ في سجل الأجداد. {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}. قد يغرقُ العالمُ بالباطل، لكنه لن يجعله حقاً. قد ينتصر السحرةُ لوقتٍ ما، لكن سحرهم زائلٌ، والحقيقةُ تبقى.
فهل نُوقظ عقولنا من هذا السحر الثلاثي؟ أم نبقى نعبد الأغلبيةَ، ونقدس الماضيَ، ونتبع الرموزَ حتى نُصبح جزءاً من تلك الجوقةِ التي تُردد : {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}؟
عيدكم مبارك سعيد أهله الله عليكم وعلى ذويكم بالصحة والعافية وطول العمر…