
المصطفى الجوي – موطني نيوز
في زمنٍ تتسارع فيه الحياة وتتدفق لحظاتها كالماء بين الأصابع، يجد المرء نفسه أحيانًا محاصرًا في دوامةٍ لا ترحم، اسمها “الوظيفة”. تلك الكلمة التي تحمل في طياتها وعودًا بالاستقرار والأمان، لكنها في الواقع قد تتحول إلى سجنٍ يُقيّد الروح ويسرق العمر دون أن نشعر. هذا ليس تشاؤمًا، بل تأملًا في واقعٍ يعيشه الكثيرون، واقعٍ يستحق منا وقفة تأمل ونقاشًا صريحًا.
تخيّل أنك تستيقظ كل صباحٍ بنفس الروتين القاتل: ساعةٌ تنبهك في وقتٍ لا تريد فيه أن تفتح عينيك، ثم رحلةٌ متعبةٌ عبر وسائل النقل لتصل إلى مكتبٍ يُقبض عليك فيه من الثامنة والنصف إلى الرابعة والنصف. خارج جدران ذلك المكان، تمر لحظاتٌ جميلة: شمسٌ تشرق بألوانها الدافئة، أطفالٌ يلعبون في الشوارع، أصدقاءٌ يتبادلون الضحكات في مقهى قريب. لكنك لا ترى شيئًا من ذلك، فأنت محبوسٌ في قفصٍ زجاجي، تُسميه “واجبًا” أو “مسؤولية”.
الحياة الوظيفية ليست مجرد ساعات عمل، بل هي نظامٌ يُقيّد حريتك بسلاسل خفية. لا تتغيب إلا بإذن، ولا تأخذ عطلة إلا بموافقة، وإذا مرضت، فإن شهادتك الطبية تصبح مطلبًا لإثبات صدقك، وأحيانًا يُشككون في مرضك حتى وإن كان واضحًا كالشمس في وجهك الشاحب. تنام متأخرًا وتستيقظ مبكرًا، فتفقد نعمة نوم الصباح، ومعها شبابك الذي يذوب بين أوراق المكتب وصراعات العمل. تتحول حياتك إلى سباقٍ محمومٍ للحاق بالوقت المحدد، وتعيش بأعصابٍ مشدودة كأوتار قوسٍ على وشك الانقطاع.
ومع كل ذلك، تظل تتشبث بأملٍ بعيد: زيادةٌ في الراتب، ترقيةٌ في السلم الوظيفي، أو تحسّنٌ في الأوضاع عبر حواراتٍ نقابيةٍ قد لا تُثمر. تعيش منتظرًا، تتناول أقراصًا لتهدئة التوتر وأخرى لتقوية جسدك المنهك، بينما يمر العمر وأنت تلهث وراء وهمٍ يُسمى “الاستقرار المالي”. ثم، بعد خمسة وعشرين عامًا أو أكثر، يأتي يوم التقاعد. يحتفلون بك، يودعونك بكلماتٍ جوفاء وهديةٍ رمزيةٍ لا تعوّض ما سُرق منك. تعود إلى بيتك صامتًا، تكتشف أن أبناءك قد كبروا ورحلوا، وأن شريكة حياتك قد شاخ شعرها، وأنك لم تلحظ متى حدث كل ذلك.
حينها، يرتفع صوتٌ داخلك يقول: “الوظيفة تسرق الأعمار بلا فائدة”. نعم، الراتب الثابت قد يكون مُسكّنًا، لكنه لا يعوّض شبابًا ضاع، ولا لحظاتٍ كان يمكن أن تُعاش بحرية وسعادة. أنا لا أدعو إلى ترك العمل أو الهروب من المسؤوليات، ولا أخاطب الأشباح من الموظفين. لكنني أدعو إلى التفكير: هل يمكن أن نعيش حياةً متوازنة؟ هل يمكن أن نجد عملًا يمنحنا الوقت لنرى الجمال خارج المكاتب، ونعيش شبابنا قبل أن يفوت الأوان؟
الوظيفة ليست شرًا مطلقًا، لكنها تصبح كذلك عندما تتحول إلى سارقةٍ صامتةٍ لأغلى ما نملك: الوقت. فلنبحث عن معنى أعمق لحياتنا، ولنرفض أن نكون مجرد أرقام في سجلات الدوام. الحياة أقصر من أن نضيعها بين جدرانٍ لا تمنحنا سوى الفتات.