
المصطفى الجوي – موطني نيوز
قال سقراط ذات مرة : “إذا ركلني حمار، هل أقاضيه أو أشتكي عليه أو أركله؟” هذا السؤال البسيط، الذي يحمل في طياته حكمة عميقة، يعكس نظرة فلسفية تتجاوز حدود الزمن. لم يكن سقراط يتحدث عن الحمير الحقيقية فحسب، بل عن تلك الرموز البشرية التي تملأ حياتنا أحيانًا بالضوضاء والعدوانية دون هدف أو معنى. إنها دعوة للتأمل في كيفية تعاملنا مع الجهل والصراعات التي تعترض طريقنا، وكيف يمكن للصمت أن يكون أقوى رد على من لا يملك سوى الصراخ.
في عالم اليوم، حيث تتدفق المعلومات بلا توقف وتتشابك الأصوات في دوامة من الجدل والنقاش، يبدو أن الجميع يسعى لإثبات وجوده بأعلى صوته. وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت ساحة مفتوحة للجميع، تحولت إلى منصة يتنافس فيها الناس ليس فقط على الأفكار، بل على الانتباه والتأثير. لكن وسط هذا الزحام، نجد أن الكثير من الجدالات لا تستحق حتى لحظة من وقتنا. إنها مجرد ضجيج، كركلة حمار لا تعني شيئًا سوى إثبات وجوده العابر. فلماذا ننزلق إلى مستنقع الردود العقيمة ونحن نملك خيار الصمت؟
فالصمت ليس ضعفًا، كما يعتقد البعض، بل هو قوة تحتاج إلى شجاعة حقيقية. عندما يواجهك شخص بالإهانات أو يحاول استفزازك بكلمات فارغة، فإن ردك الصاخب قد يمنحه ما يبحث عنه: الانتباه والصراع. لكن عندما تختار أن تمر بسلام، فإنك تحرمه من تلك المتعة الزائفة، وتظل أنت في موقع السيطرة. إن الذكاء الحقيقي لا يحتاج إلى الصراخ ليثبت نفسه، فهو كالضوء الذي يتسلل بهدوء إلى الظلام دون أن يعلن عن قدومه. الحكمة، كما قال سقراط بطريقته، لا تحتاج إلى محاكمة الحمير أو النزول إلى مستواها، بل إلى السمو فوقها.
في حياتنا اليومية، نواجه العديد من المواقف التي تختبر قدرتنا على التمييز بين ما يستحق الرد وما يستحق التجاهل. قد يكون ذلك في نقاش عائلي حاد، أو تعليق مسيء على منشور في الإنترنت، أو حتى مواجهة مباشرة مع شخص يصر على فرض رأيه بلا منطق. في مثل هذه اللحظات، يصبح السؤال الأهم: هل أركل الحمار أم أتركه يركض بعيدًا؟ الإجابة تعتمد على مدى إدراكنا لقيمة وقتنا وطاقتنا. فالنقاشات التي لا تضيف إلى حياتنا سوى التوتر والإرهاق هي بمثابة معارك خاسرة منذ البداية، حتى لو انتصرنا فيها ظاهريًا.
لكن هذا لا يعني أن الصمت هو الحل الدائم أو أن علينا أن نتجنب الدفاع عن أنفسنا وقناعاتنا عند الضرورة. هناك لحظات تستحق الكلام، بل وتتطلب منا أن نرفع أصواتنا بقوة وحزم. الفرق يكمن في قدرتنا على اختيار المعارك التي تستحق الخوض فيها. إنها مهارة تتطلب وعيًا ذاتيًا وانضباطًا نفسيًا، لأن الاندفاع في الرد قد يكون أسهل من ضبط النفس. لكن عندما ندرك أن ليس كل صوت يستحق الإجابة، نكتشف أننا نملك حرية أكبر مما كنا نعتقد. حرية اختيار متى نتحدث ومتى نصمت، ومع من نشارك أفكارنا وطاقتنا.
إذا تأملنا في كلمات سقراط مرة أخرى، نجد أنها تحمل معنى أعمق من مجرد دعوة للتجاهل. إنها تعلمنا أن الرد على الجهل بالجهل هو خسارة مضاعفة. عندما نركل الحمار ردًا على ركلته، ننزل إلى مستواه، ونفقد جزءًا من كرامتنا وهدوئنا. لكن عندما نختار أن نمضي قدمًا دون أن نلتفت، فإننا نحافظ على سلامنا الداخلي ونثبت أن قوتنا لا تكمن في الصراخ، بل في الثبات. الجهل يصرخ لأنه يفتقر إلى الحجة، بينما الحكمة تصمت لأنها لا تحتاج إلى إثبات.
ففي بعض الأحيان، قد يبدو الصمت وكأنه هزيمة في نظر الآخرين. قد يعتقد البعض أن عدم الرد هو عجز أو خوف، لكن الحقيقة أن الصمت الواعي هو انتصار على النفس قبل أن يكون انتصارًا على الخصم. إنه يعكس ثقة داخلية لا تهتز بكلمات الآخرين، وقدرة على رؤية الصورة الكاملة بدلاً من الانشغال بالتفاصيل الصغيرة. من يصرخ يبحث عن رد فعل، ومن يصمت يحرم الصراخ من هدفه. وهكذا، يتحول الصمت إلى سلاح لا يراه الجميع، لكنه يحمي صاحبه من الضوضاء والعبث.
وفي مجتمعاتنا العربية، حيث تتشابك العواطف مع الكلمات، قد يكون الصمت أصعب من الكلام. نحن شعوب تحب النقاش وتتذوق متعة الحوار، لكننا أحيانًا ننسى أن ليس كل حوار يستحق الخوض فيه. كثيرًا ما نجد أنفسنا مدفوعين بعاطفة اللحظة للرد على كل كلمة أو استفزاز، دون أن نسأل أنفسنا: ما الذي سنكسبه؟ هل سيقودنا هذا النقاش إلى فهم أعمق أم إلى مزيد من التوتر؟ إذا كان الجواب هو الأخير، فلماذا نضيع الوقت؟
الصمت، في جوهره، هو فن. إنه ليس مجرد غياب الكلام، بل اختيار واعٍ لما نريد أن نمنحه من طاقتنا وانتباهنا. إنه يعكس نضجًا يتجاوز الانفعالات اللحظية، وقدرة على التمييز بين ما هو عابر وما هو جوهري. عندما نتقن هذا الفن، نكتشف أننا لسنا مضطرين للرد على كل ركلة، وأن الحمير – سواء كانت حقيقية أو مجازية – لا تستحق أن نشغل أنفسنا بها. يكفي أن نتركها تمضي في طريقها، بينما نمضي نحن في طريقنا، نحو ما هو أسمى وأعمق.
ليبقى درس سقراط خالدًا: لا يتعلق الأمر بالفوز في كل المعارك، بل باختيار المعارك التي تستحق القتال من أجلها. الجهل سيظل يصرخ، لأن الصراخ هو لغته الوحيدة. أما الحكمة، فستظل صامتة، لأنها تعرف أن قوتها لا تحتاج إلى إعلان. وعندما نواجه الضوضاء في حياتنا، فلننظر إليها بعين سقراط: هل نركل الحمار، أم نتركه ونتابع السير؟ الإجابة بسيطة، لكن تطبيقها هو ما يصنع الفارق. الصمت أبلغ من الكلام، لأنه يحمل في طياته قوة الثبات وحكمة الاختيار.