
المصطفى الجوي – موطني نيوز
في زمنٍ تتصارع فيه الأصوات لتُثبت وجودها، وتتسابق الكلمات لتفرض هيمنتها، يبرز الصمت كنجمٍ ساطعٍ في سماءٍ ملبدة بالضجيج. ليس الصمت ضعفًا، ولا انهزامًا، بل هو اختيارٌ يعكس عمق الحكمة ورهافة الشعور، سلاحٌ يشهرُه الراقون في وجه الحُمق، وبُعدٌ يميّز النفوس العالية عن تلك التي تتخبط في مستنقعات الجدل العقيم. تخيّل أنك تقف أمام بحرٍ هائجٍ من الصراخ والكلمات الفارغة، وفي يديك كنزٌ من الأفكار والحجج، لكنك تختار أن تحتفظ به لنفسك، لا لأنك عاجزٌ عن النطق، بل لأنك تدرك أن من أمامك لا يملك أدوات فهم قيمته. هذا هو الصمت الذي نتحدث عنه، ليس غياب الكلام، بل حضورٌ قويٌ للوعي والإدراك، قرارٌ جريءٌ يشبه الجبل الشامخ الذي لا تهزه الرياح العاتية، بينما تتهاوى الأغصان الضعيفة تحت وطأتها.
كثيرًا ما نربط الكرامة بالانتصار في المعارك اللفظية، نعتقد أن قيمتنا تُقاس بقدرتنا على إسكات الخصم أو فرض الحجة بصوتٍ عالٍ، لكن أليس من الأجمل أن تكون كرامتك محفوظة في سكونك، بعيدًا عن فوضى الجدل؟ تخيّل نفسك في ساحةٍ يتعارك فيها الجميع تماما كما يقع في وسائل التواصل الإجتماعي، يرفعون أصواتهم ويلوحون بكلماتهم كسيوفٍ صدئة، بينما تقف أنت في ركنٍ بعيد، تبتسم بهدوء، وكأنك تعلم سرًا لا يعرفه أحد. هذا السر هو أن الكرامة لا تُسرق منك بصراخ الجهال أو جدل الرويبضة، بل تُحفظ باختيارك أن تبقى فوق مستوى الحُمق والغباء، كما قيل: “الصمت في حضرة الجهلاء عزة نفس، لا ضعف”. إنها عزةٌ تُكللك بهالةٍ من الوقار، تجعل الآخرين يتساءلون في قرارة أنفسهم: ما الذي يملكه هذا الشخص حتى يبدو بهذا الثبات؟ الصمت هنا ليس استسلامًا، بل استراتيجية، اختيارٌ واعٍ للحفاظ على طاقتك وهيبتك، بدلاً من استنزافها في معارك لا تنتهي بين التفاهة و التافهين ومن صنعهم.
والكلمات، تلك الأداة السحرية القادرة على بناء العلاقات أو هدمها، على إلهام الآخرين أو إغراقهم في الحيرة، هي كنزٌ ثمينٌ يفقد قيمته إذا أُهدر في غير موضعه. وبالتالي أن تملك الكلمات وتختار ألا تُطلقها إلا في اللحظة المناسبة، مع الشخص المناسب، هو فنٌ لا يتقنه إلا القليلون. فلماذا تُلقي بجواهرك أمام من لا يعرف قيمتها؟ لماذا تُرهق نفسك بشرح ما هو واضحٌ لك، بينما يصر الآخرون على رؤية ما يريدون فقط؟ لأن في بعض الأحيان، يكون الصمت أبلغ من ألف كلمة، نظرةٌ هادئة، ابتسامةٌ خفيفة، أو حتى مجرد انسحابٍ صامتٍ من حوارٍ لا طائل منه، قد تحمل في طياتها رسائل أعمق مما تستطيع الكلمات نقله. إنه الصمت الذي يقول: “أنا أعرف، وهذا يكفيني”، الصمت الذي يُحيطك بهالةٍ من الغموض والاحترام، لأن من يملك الكثير لا يحتاج إلى التباهي به. وكما تعلمون فالإناء الفارغ هو الذي يحدث صوت وضجة.
وقد يظن البعض أن الصمت في مواجهة الجهل هو رفاهية لا يستطيع الجميع تحملها، فكيف تظل صامتًا بينما يُشوه الحق أمام عينيك، أو يُساء فهمك عمدًا؟ لكن الحكمة تقول إن الجهلاء لا يرون إلا ما يريدون رؤيته، ولا يسمعون إلا ما يتناسب مع أفكارهم المسبقة والمتعفنة. وأن تُدخل نفسك في معركةٍ مع عقولٍ لا تستوعب، هو بمثابة محاولة تعليم الصخر النطق؛ جهدٌ ضائع، ووقتٌ مهدور. لأن الصمت في هذه اللحظات ليس مجرد خيار، بل ضرورة، لأنه يرفض منح الجهل منصةً للظهور، يُغلق الأبواب أمام الضجيج، ويتركك في واحتك الداخلية، حيث السلام والرقيّ. إنه الرد الأقوى على من يصرخ لإثبات لا شيء، لأنك بصمتك تُعلن أنك لست بحاجةٍ للصراخ كي تُثبت وجودك، وكأنك تغلق الباب على أصابعه أو تبصق في وجهه بإزدراء.
وفي عالمٍ يزدحم بالصراخ والجدل، يبقى الصمت ملاذ الراقين، أسلوب حياة يعكس قوة الشخصية وعمق التفكير. أن تختار صمتك سلاحًا في وجه الحُمق، وأن تحفظ كلماتك لمن يستحقها، هو دليلٌ على أنك لست كغيرك. مرة أخرى أقول : الرقيّ ليس في الانتصار بالكلمات، بل في الحفاظ على هيبة الصمت، تلك الهيبة التي تجعلك تسمو فوق الصغائر، وتترك الآخرين يتساءلون عن سر قوتك. فاختر رقيك، وأغلق أبواب الحديث حين لا داعي له، ففي الصمت كرامةٌ لا تُضاهى، وحكمةٌ لا تُدركها إلا النفوس العالية. طبتم وطاب يومكم، وكفى بالصمت تاجًا يزين رؤوس الحكماء.
رحم الله الشاعر عمرو بن كلثوم عندما قال :
أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا
فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا