
المصطفى الجوي – موطني نيوز
في عالم الأعمال، تتشكّل قصص النجاح والفشل من خيوطٍ دقيقةٍ تتداخل فيها القرارات الإدارية، والعلاقات الإنسانية، والظروف الخارجية. ومن بين تلك القصص التي تستحق التأمل، قصة شركة “أوزون للبيئة والخدمات” التي كانت يومًا إمبراطورية واعدة في عالم الخدمات البيئية، لكنها سرعان ما واجهت السقوط والانهيار. وفي رأيي المتواضع، يعود سبب هذا السقوط إلى خللٍ جوهري في إدارة الأولويات والثقة، تجسّد في عبارةٍ بليغةٍ قد تُلخص المشهد: “أمورٌ صغار سُلّمت لكبار، وأمورٌ كبار سُلّمت لصغار”، فكان ذلك بداية النهاية للشركة وقيمتها، بين إفراطٍ وتفريط.
لعلّ أول ما يتبادر إلى الذهن عند تحليل سقوط “أوزون” هو سوء توزيع المسؤوليات داخل الشركة. إن إدارة المؤسسات الناجحة تتطلّب توازنًا دقيقًا بين تفويض المهام ومراقبتها. فالقائد الناجح هو من يعرف متى يُسند المهام البسيطة إلى فريق العمل الصغير ليُحرر نفسه للتفكير الاستراتيجي، ومتى يحتفظ بالقرارات الكبرى بين يديه أو يُشرك فيها الكفاءات العالية. لكن ما حدث في “أوزون” -كما أرى- كان عكس ذلك تمامًا. فالدكتور عزيز البدراوي، وهو الرجل الذي قاد الشركة في أوجها، بدا أنه سلّم أمورًا صغيرة تافهة إلى كبار الموظفين، مما أضاع وقتهم وجهدهم في تفاصيل لا تستحق، بينما أوكل القرارات الكبرى إلى أشخاصٍ ربما لم يكونوا على مستوى الكفاءة المطلوبة. هذا الخلل في التفويض أدّى إلى فوضى إدارية، حيث ضاعت البوصلة وتاهت الرؤية، مباشرة بعد إعتقاله حيث ظهرت العيوب وبانت الكفاءات.
إن مثل هذا النهج يُشبه من يُعطي مفاتيح خزينته لخادمٍ غير مؤتمن، بينما يكلّف الحكيم بكنس الأرضيات. فكيف لشركةٍ أن تستمر وهي تُدار بهذا الشكل بعد غياب صاحبها؟ إن التاريخ حافل بأمثلةٍ لمؤسساتٍ سقطت لأن قادتها لم يُحسنوا اختيار من يُناط إليهم الأمر، و”أوزون” لم تكن استثناءً، فما كانوا يقومون به في وجوده هو في الواقع نفاق ووجه اخر غير الذي ظهروا به وهو في المعتقل.
الجانب الثاني الذي أعتقد أنه ساهم في سقوط الشركة يتمثّل في سوء إدارة العلاقات البشرية. لقد قيل إن الدكتور عزيز البدراوي “قرّب العدو طمعًا في كسب وده، وأبعَد الصديق ضامنًا ولاءه”. هذه المقولة، إن صحّت، تكشف عن خطأٍ استراتيجيٍ فادح. ففي عالم الأعمال، كما في الحياة، الثقة هي العملة الأغلى. والقائد الذي يُفضّل التقرّب من خصومه على حساب أصدقائه المخلصين، يُعرّض نفسه للغدر من الأولين وفقدان دعم الآخرين. وفي حالة البدراوي يبدوا ان جلهم كانوا ينافقونه لكن الحقيقة شيء آخر.
ربما كان الدكتور البدراوي يظن أن تقريب الأعداء وبعض أفراد العائلة سيُحوّلهم إلى حلفاء، أو أنه سيستفيد منهم في توسيع نفوذ الشركة. لكن هذا الطمع -إن صحّ التعبير- جاء بنتائج عكسية. فالعدو، بطبيعته، يبقى عدوًا والحاقد يبقى حاقد حتى إن كان شقيقك، وإن أظهر الودّ فإنما هو ودٌّ مؤقت ينتظر الفرصة للانقضاض وهو ما وقع بعد إعتقاله. وهكذا، نال البدراوي وشركته غدر هؤلاء الذين قدّمهم على حساب الموالين. في المقابل، أولئك الأصدقاء الذين أُبعدوا، شعروا بالإهمال والتهميش، ففقدوا حافزهم للدفاع عن الشركة أو دعمها في أوقات الأزمات. وهكذا، خسر “أوزون” ولاء الجميع، وأصبحت كالجسد بلا روح.
إن ما بين الإفراط والتفريط هو الاعتدال، وهو ما افتقدته “أوزون” في مسيرتها الأخيرة. فالإفراط في الثقة بمن لا يستحق، والتفريط في تقدير من يستحق، أدّيا إلى اختلال الموازين داخل الشركة. كان من الممكن أن تستمر “أوزون” كإمبراطورية بيئية ناجحة لو أنها حافظت على التوازن بين الطموح والحذر، وبين التوسع والاستقرار. لكن الإفراط في التوسع دون أسسٍ متينة، والتفريط في إدارة الموارد البشرية والمالية، جعلاها عرضةً للسقوط عند أول هزة “إعتقال البدراوي”.
إن التاريخ يعلّمنا أن الشركات التي تنمو بسرعة دون تخطيطٍ مدروس غالبًا ما تُصاب بالانهيار. و”أوزون”، التي بدأت كفكرةٍ رائدة في مجال البيئة والخدمات، لم تكن بعيدة عن هذا المصير. فالنجاح السريع قد يكون نعمة إذا أُحسن استغلاله، لكنه يتحوّل إلى نقمة إذا أُسيء إدارته.
“فكم لنا في التاريخ من حِكمٍ وعِبرٍ، ولكن هل من مُعتبر؟” هذا السؤال يتردد في أذهاننا ونحن نتأمل قصة “أوزون”. فالتاريخ ليس مجرد سجلّ للأحداث، بل هو مدرسةٌ تُعلّمنا كيف نحافظ على النجاح ونتجنّب الفشل. لقد شهدنا سقوط إمبراطورياتٍ عظيمة بسبب سوء القرارات، مثل الإمبراطورية الرومانية التي أنهكتها الحروب الداخلية والثقة العمياء في الحلفاء الخائنين. وفي العصر الحديث، رأينا شركاتٍ عملاقة مثل “إنرون” تتهاوى بسبب الفساد وسوء الإدارة. فلماذا لا نتعلم من هذه الدروس؟
إن ما حدث لـ”أوزون” ليس مجرد قصة شركةٍ فشلت، بل هو درسٌ لكل قائدٍ ورائد أعمال. درسٌ يقول إن النجاح لا يكفي إذا لم يُدعم بالحكمة والتوازن، وأن القوة الحقيقية ليست في التوسع المادي، بل في بناء العلاقات المستدامة والثقة المتبادلة.
ورغم كل ما حدث، يبقى الأمل قائمًا في أن تعود “أوزون” إلى سابق عهدها. فالدكتور عزيز البدراوي، الذي يعاني اليوم من الأسر، قد يكون هو الشخص الوحيد القادر على إعادة بناء هذه الإمبراطورية. نرجو الله أن يُطلق سراحه، وأن يفك كربته، وأن يعيده سالمًا لعائلته و إلى عالم الأعمال ليُعيد أمجاد “أوزون”. فالرجل الذي استطاع يومًا أن يبني هذا الصرح من الصفر، قادرٌ -بإذن الله- على إعادته إلى الحياة، بشرط أن يتعلّم من أخطاء الماضي، وأن يُعيد ترتيب أولوياته، وأن يُحسن اختيار من يُحيطون به.
وبالتالي، يبقى سقوط “أوزون للبيئة والخدمات” مثالًا صارخًا على كيفية تحول النجاح إلى فشل عندما تُفقد البوصلة. إن سوء توزيع المسؤوليات، وتقريب الأعداء على حساب الأصدقاء، والإفراط والتفريط في القرارات، كلها عوامل ساهمت في هذا المصير. لكن الأمل لا يزال موجودًا، والدروس لا تزال أمامنا لمن أراد أن يعتبر. فهل ستكون “أوزون” مجرد ذكرى في سجل الفشل، أم ستعود يومًا لتُثبت أن الفشل ليس نهاية الطريق، بل بداية لتجربةٍ جديدة؟ الله وحده يعلم، وإليه نرفع الدعاء أن يُفرج عن الدكتور عزيز البدراوي ويمنحه فرصةً جديدة لإعادة البناء ما هده الحاقدين و المتربصين وحتى من كانت أوزون هي سبب انتشالهم من الفقر و الوحل.