حكمة أمير المؤمنين في وجه الغلاء

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

في خضم الأزمات التي تعصف بالمجتمعات، تبرز أحيانًا لحظات تاريخية تكشف عن عمق الرابط بين الحاكم وشعبه، وعن مدى إدراك القائد لنبض أمته. لقد شهد المغرب في الآونة الأخيرة موجة غلاء لم تُبقِ ولم تذر، أثقلت كاهل الفئات الضعيفة، وعجزت أمامها الحلول التقليدية، بينما استشرى طمع بعض تجار الأزمات الذين لا يرون في المحن سوى فرصة للاستغلال والثراء. وفي هذا السياق، كان التدخل الملكي بقيادة أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس، بمثابة نسمة أمل أعادت التوازن إلى المشهد، وأكدت أن القيادة الحكيمة قادرة على تحويل الأزمات إلى فرص للإصلاح والتضامن.

لم يكن هذا التدخل مجرد قرار عابر، بل حمل في طياته حكمة عميقة مستمدة من تراث الأمة، وتحديدًا من مقولة الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “حاربوا الغلاء بالاستغناء”. هذه المقولة التي تجاوزت حدود الزمن لتصبح شعارًا عمليًا في مواجهة التحديات الاقتصادية، وجدت صداها في قرار صاحب الجلالة بإعفاء شعبه من شعيرة عيد الأضحى لهذا العام. لم يكن القرار مجرد تنازل عن تقليد ديني متجذر، بل كان دعوة للتكافل والترفع عن الماديات في سبيل تخفيف الأعباء عن كاهل المواطنين، وإعادة الاعتبار لقيم الزهد والاكتفاء التي طالما شكلت درعًا للمجتمعات في أوقات الشدة.

ولعل ما يثير الدهشة والإعجاب في هذا القرار هو النتائج المباشرة التي ترتبت عليه. فبمجرد الإعلان عن الإعفاء، شهدت أسعار الأضاحي انخفاضًا ملحوظًا بنسبة وصلت إلى خمسين بالمئة، وهو ما يعكس مدى تأثير القرار الملكي على السوق، ويبرهن على أن التضامن الاجتماعي، عندما يقترن بالحكمة والسلطة، يمكن أن يكون أقوى من جشع التجار ومكرهم. هذا الانخفاض لم يكن مجرد رقم عابر، بل كان انتصارًا للفقراء والمحتاجين الذين طالما عانوا من وطأة الغلاء، وشعروا لأول مرة أن هناك من يقف إلى جانبهم، يحمل عنهم بعض أعبائهم، ويذكرهم بأن العزة ليست في الترف، بل في الاستغناء والكرامة.

إن هذا التدخل الملكي لم يأتِ من فراغ، بل هو امتداد لنهج طالما تميز به صاحب الجلالة الملك محمد السادس، الذي أطلق عليه شعبه لقب “ملك الفقراء”، ليس ترفًا أو مبالغة، بل لأنه أثبت في مناسبات عديدة أن همه الأول هو الدفاع عن المستضعفين، ورفع الظلم عنهم. فمن مشاريع التنمية البشرية التي أطلقها منذ توليه العرش، إلى قراراته الحاسمة في أوقات الأزمات، يظل الملك محمد السادس رمزًا للعدل والرحمة، يحمل في قلبه هموم شعبه، ويسعى جاهدًا ليكون لهم ملاذًا ودعامة. وفي هذا القرار الأخير، تجلى ذلك بوضوح، حيث لم يكتفِ بمجرد إصدار أمر، بل وضع نموذجًا عمليًا يمكن أن يُحتذى به في مواجهة التحديات المستقبلية.

ومما يزيد هذا القرار عمقًا أنه جاء في سياق ديني واجتماعي حساس، إذ يرتبط عيد الأضحى بقيم التضحية والإيثار، وهي قيم جسدها الملك بنفسه من خلال هذا الإعفاء. ففي الوقت الذي كان يمكن أن يظل الأمر مجرد طقس سنوي تثقل كلفته كاهل الفقراء، حولته رؤية صاحب الجلالة إلى درس في التضامن والتعاضد، حيث أصبح الاستغناء عن الأضحية تضحية من نوع آخر، تضحية تهدف إلى تخفيف المعاناة بدلًا من زيادتها. وهكذا، استطاع الملك أن يعيد صياغة المعاني العميقة لهذه الشعيرة، لتتحول من مجرد ذبح أضحية إلى ذبح الطمع والجشع في نفوس التجار والمستغلين.

ولعل من أبرز ما يمكن استخلاصه من هذه التجربة هو أن العدل، مهما طال أمد الظلم قبله، لا بد أن ينتصر في النهاية. فالغلاء الذي استبد بالناس لم يكن لينكسر لولا تدخل قائد يملك السلطة والحكمة معًا. وقد جاء هذا الانتصار على لسان أمير المؤمنين، الذي لم يكتفِ بإصدار الأوامر من بعيد، بل كان صوته واضحًا، وحضوره محسوسًا، يؤكد لشعبه أن الحق سيظل سيدهم ما دام هناك من يحميه ويدافع عنه. وفي هذا دلالة على أن القيادة ليست مجرد منصب، بل مسؤولية تتطلب الشجاعة والإقدام، والقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة في الأوقات الحرجة.

إن ما تحقق في هذه المناسبة ليس نهاية المطاف، بل بداية لمرحلة جديدة قد تحمل في طياتها المزيد من الإصلاحات والمبادرات التي تعزز من صمود المجتمع المغربي. فالقرار الملكي لم يكن مجرد حل مؤقت، بل رسالة واضحة مفادها أن الاستغناء والتكافل هما السلاح الأمضى في مواجهة الأزمات. ومن هنا، يمكن أن تتسع دائرة هذا النهج لتشمل مجالات أخرى، كالتحكم في أسعار المواد الأساسية، ودعم الفئات الهشة، ومحاربة الفساد الذي يتغذى على محن الناس. فالقادم، كما وعدنا به جلالة الملك، قد يكون أفضل، إذا ما استمر هذا النهج في ترسيخ قيم العدالة والتضامن.

وفي خضم هذا كله، لا يمكن إغفال الجانب الإنساني الذي يميز شخصية الملك محمد السادس. فهو ليس فقط قائدًا يصدر الأوامر، بل أب لشعبه، يشعر بآلامهم، ويبحث عن سبل تخفيفها. وفي هذه اللحظات، تتجلى عظمة العرش المغربي الذي طالما كان ملاذًا للمغاربة في أوقات الشدة. ومع ما يعانيه جلالة الملك من وعكة صحية، يبقى الأمل معلقًا بدعوات شعبه الصادقة أن يمن الله عليه بالشفاء العاجل، ليظل درعًا ودعامة لهذه الأمة التي اختارها الله لتكون تحت ظل قيادته الحكيمة.

إن التجربة التي عاشها المغرب في مواجهة الغلاء بقرار الإعفاء من شعيرة عيد الأضحى ليست مجرد حدث عابر، بل درس في الحكمة والعدل والتضامن. لقد أثبت الملك محمد السادس أن القائد الحقيقي هو من يقف إلى جانب شعبه في الضراء قبل السراء، وأن الحلول الكبرى قد تكمن في أبسط الأفكار، كالاستغناء والترفع عن الماديات. وتبقى هذه الخطوة شاهدة على أن المغرب، بشعبه وقيادته، قادر على تحويل الأزمات إلى انتصارات، وأن الحق، مهما طال أمد الظلم، سيجد طريقه إلى النور بإذن الله. فليحفظ الله أمير المؤمنين، وليجعله ذخراً لشعبه، وملاذاً لهم في كل محنة.

يحيى الملك…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!