الاحتلال الإسباني في مهب الريح واستراتيجية المغرب بين الحصار الاقتصادي والتحول الجيوسياسي

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

منذ قرون، ظلت المدن المحتلة سبتة ومليلية وجزر الكناري تشكل جرحًا نازفًا في جسد المغرب، وشاهدًا على تراكمات تاريخ استعماري أوروبي طويل. لكن المشهد اليوم يشهد تحولًا جذريًا، حيث باتت هذه البُقع الجغرافية رمزًا لصراع خفي بين إسبانيا التي تحاول التشبث بآخر آثار إمبراطوريتها البائدة، والمغرب الذي ينسج خيوط استراتيجية مُحكمة تجمع بين الاقتصاد والجيوسياسة، لتُعلن نهاية حقبة الاستعمار المديد. فكيف تحوّلت هذه المدن من “نعمة” استعمارية إلى “نقمة” على خزينة مدريد؟ وما دور التحالفات الدولية في تسريع هذا الانهيار؟

فلطالما اعتمد المغرب سياسة “الردع الناعم” لاستعادة حقوقه، مبتعدًا عن الخطابات الصدامية، ومستثمرًا في بناء قوته الاقتصادية كأداة ضغط غير مباشرة. فخلال العقدين الماضيين، شهدت المناطق الشمالية للمملكة طفرة تنموية غير مسبوقة، بدءًا من تشييد موانئ المياه العميقة في طنجة المتوسط والناظور، التي حوّلت المغرب إلى قطب لوجستي عالمي، مرورًا بإنشاء مناطق صناعية متطورة جذبت استثمارات ضخمة مثل مصانع السيارات ومشاريع الطاقة المتجددة، ووصولًا إلى تطوير البنية التحتية السياحية والخدماتية، كمحطات تحلية المياه والمطارات الحديثة.

هذه الإنجازات لم تكن مجرد خطوات تنموية، بل شكلت حصارًا اقتصاديًّا مُحكمًا حول سبتة ومليلية. فميناء طنجة، الذي تفوق قدرته التنافسية على موانئ سبتة، استقطب الحركة التجارية الإفريقية والأوروبية، بينما باتت المناطق الصناعية في الناظور تُنافس منتجات المدينتين المحتلتين بجودة أعلى وأسعار أقل. هذا الواقع دفع آلاف المستثمرين الإسبان إلى الهجرة المعاكسة، تاركين خلفهم اقتصادًا محليًّا متهالكًا، يعتمد على الدعم الحكومي الإسباني الذي تحوّل إلى عبء ثقيل على ميزانية مدريد.

وإذا كان العدوان “الغبي” (في إشارة إلى من حشرنا الله معهم في الجوار) يتمثل في سياسات القوة المباشرة التي تُغذي الصراع العنصري والتحريض، فإن إسبانيا اختارت – بحسب الخطاب المطروح – عدوانًا “ذكيًّا” يعتمد على المهادنة الظاهرية، عبر تجنب استفزاز الرباط بشكل صريح، بينما تحاول ترسيخ وجودها في المدن المحتلة عبر دبلوماسية هادئة. لكن هذا النهج، رغم دهائه النظري، اصطدم بواقع جيوسياسي جديد: فالمغرب لم يعد ذلك الطرف الضعيف الذي يمكن احتواؤه بوعود دبلوماسية، بل تحوّل إلى لاعب إقليمي يصنع تحالفات دولية ويُعيد رسم خريطة النفوذ في غرب المتوسط.

والنتيجة كانت كارثية على إسبانيا، فالمستعمرات التي كانت تُدرّ أرباحًا من خلال تجارة التهريب والخدمات الحدودية، تحولت إلى بؤر استنزاف مالي وسياسي. حيث كشفت تقارير إسبانية أن كلفة دعم سبتة ومليلية تجاوزت 2 مليار يورو سنويًّا، في وقت تواجه فيه مدريد أزمات اقتصادية متلاحقة. بل إن الهجرة العكسية للإسبان من هذه المدن – خاصة بعد تدهور الخدمات وتراجع الأمن – أصبحت ظاهرة تُنذر بتحولها إلى “مدن أشباح” تابعة اسميًّا فقط لإسبانيا.

ومع وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض، دخلت المعادلة عنصرًا جديدًا وهو التحالف الاستراتيجي المغربي-الأمريكي، الذي قد يُعيد رسم الخريطة العسكرية للمنطقة. فالقواعد الأمريكية في إسبانيا، مثل قاعدة “روتا” البحرية، التي استضافت لسنوات سفن حلف الناتو، باتت تحت تهديد الانتقال إلى الضفة الجنوبية للمضيق، حيث تُقدّم الرباط نفسها كشريك أكثر استقرارًا في مواجهة تهديدات الإرهاب والهجرة غير النظامية.

والنقاش حول نقل قيادة “أفريكوم” – القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا – من ألمانيا إلى القنيطرة المغربية، ليس مجرد إشاعة، بل جزء من مسار طويل من التعاون العسكري الذي تجسّد في مناورات “الأسد الإفريقي” المشتركة، وتوسيع وجود البنتاغون في إفريقيا عبر بوابة المغرب. مثل هذه الخطوة لن تعزز فقط الموقع الجيواستراتيجي للمملكة، بل ستُضعف الورقة الأمنية التي تعتمد عليها إسبانيا في تفاوضها مع حلف الناتو.

فالدرس الذي تُقدمه هذه المرحلة هو أن حقبة الاستعمار المباشر انتهت إلى غير رجعة، وأن الدول التي تُحاول التشبث بآثارها تعيش في وهم التاريخ. لأن المغرب، من خلال صبر استراتيجي وبناء نموذج تنموي جاذب، نجح في تحويل الصراع من مواجهة عسكرية إلى معركة اقتصادية وجيوسياسية، حيث تُحاصر المدن المحتلة بجدار من الازدهار التنموي، بينما تترنح إسبانيا تحت وطأة التكاليف والتحالفات المتغيرة.

اليوم، وبينما تُعلن الرباط عن مشاريع جديدة مثل ميناء الداخلة الأطلسي ومنطقة التبادل الحر مع إفريقيا، يصبح واضحًا أن الانهيار الإسباني ليس سوى مسألة وقت. فالعالم الذي يتحدث عن “حق تقرير المصير” لا يمكنه أن يصم أذنيه عن صرخة شعب يُطالب باستكمال وحدته الترابية. والسؤال الوحيد المتبقي، هل ستختار إسبانيا الاعتراف بالحقيقة التاريخية وتنسحب بكرامة، أم ستبقى تُراوح في مستنقع استعماري لم يعد يُجدي إلا خسارة الكرامة والمال؟!

لأن الانهيار الإسباني ليس نهاية المطاف، بل بداية لمرحلة جديدة يُثبت فيها المغرب أن تحرير الأرض لا يتم بالشعارات فقط، بل بإرادة التخطيط وعبقرية التحولات التي تشهدها البلاد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!