ترامب واستحضار شبح الإمبريالية

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

في خضمّ التطورات السياسية المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، تطفو على السطح تصريحاتٌ وتصرفاتٌ تذكّرنا بفترات مظلمة من التاريخ، حين كانت القوى العظمى تتصارع على النفوذ والهيمنة بلا اعتبارٍ للأخلاقيات أو الحدود الدولية. تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الأخيرة، والتي عبّر فيها عن رغبته في أن تسيطر الولايات المتحدة على قطاع غزة، ليست سوى حلقة في سلسلةٍ طويلة من الأفكار والتصريحات التي تعيد إلى الأذهان إمبريالية القرن التاسع عشر الأوروبية، حين كانت الدول تتقاسم العالم وكأنه ميراثٌ عائلي. هذه التصريحات، وإن بدت للبعض مجردَ هراءٍ سياسي أو خطابٍ استفزازي مؤقت، إلا أنها تحمل في طياتها إشاراتٍ خطيرةً على توجهاتٍ قد تعيد رسم خريطة العالم وفق منطق القوة والغلبة، مُهمِّشةً مبادئ السيادة والشرعية الدولية التي تأسست عليها المنظومة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية.

لا يمكن فصل تصريحات ترامب عن سجلّه السياسي المليء بالمبادرات “غير التقليدية”، إنْ صحّ التعبير. فمنذ اليوم الأول لتنصيبه عام 2017، أعلنَ أن كندا يجب أن تصبح الولاية الحادية والخمسين للولايات المتحدة، وتحدث عن استعادة السيطرة على قناة بنما، وطرح فكرة شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك. هذه الأفكار، التي وُصفت بالـ”مجنونة”، ليست مجردَ هفواتٍ لفظية أو دعاية انتخابية، بل تعكس رؤيةً توسعيةً تعيد إنتاج منطق الإمبريالية القديمة بثوبٍ جديد. ففي القرن التاسع عشر، كانت الدول الأوروبية تتذرع بـ”الحضارة” و”نشر القيم” لتبرير استعمارها لأفريقيا وآسيا، أما اليوم، فإن الخطاب قد يتغير، لكن الجوهر يبقى ذاته: السعي إلى الهيمنة عبر فرض السيطرة على الأراضي والموارد، بغض النظر عن إرادة الشعوب أو الشرعية القانونية.

المقلق في الأمر أن مثل هذه التصريحات لا تأتي من لاعبٍ هامشي في السياسة العالمية، بل من شخصيةٍ لا تزال تتمتع بتأثيرٍ كبيرٍ على جزءٍ واسع من المشهد السياسي الأمريكي، وقد تعود إلى سدّة الحكم مجدداً. وما يُفاقم الخطر هو أن العالم اليوم أكثر هشاشةً مما كان عليه في العقود الماضية؛ فالنظام الدولي الذي تشكّل بعد عام 1945، رغم كل عيوبه، نجح إلى حدٍّ ما في احتواء النزاعات عبر مؤسساتٍ متعددة الأطراف وقواعدَ قانونيةٍ دولية. لكن تصريحات مثل تلك التي يطلقها ترامب تعمل على تقويض هذا النظام من جذوره، لأنها تُرسل رسالةً مفادها أن القوة المطلقة هي القانون، وأن الأحلام التوسعية لم تنتهِ مع زمن الإمبراطوريات القديمة.

الردود الدولية على تصريحات ترامب بشأن غزة تكشف عن انقسامٍ واضحٍ في التعاطي مع هذه الظاهرة. فبينما سارعت السعودية إلى إبداء تحفظها، جاءت تعليقات أستراليا لافتةً للنظر، ليس فقط لأنها تبعت الموقف السعودي، بل لأنها قد تكون مؤشراً على مخاوفَ أعمق. فالدولة الأسترالية، بمساحتها الشاسعة وعدد سكانها المحدود، تدرك أنها قد تكون هدفاً محتملاً لأطماعٍ توسعيةٍ مستقبلية في حال انتعش الفكر الإمبريالي الجديد. التاريخ يعلمنا أن الدول الضعيفة سكانياً أو الغنية بالموارد غالباً ما تكون أول ضحايا التوسع، سواء أكان ذلك في القرن التاسع عشر أو في القرن الحادي والعشرين.

في هذا السياق، فإن الدول التي ترى في ترامب حليفاً استراتيجياً ترتكب خطأً جسيماً. فالشخصية السياسية التي تتبنى خطاباً غير متوقعٍ وعنيفاً كهذا لا يمكن أن تكون حليفاً يعوّل عليه، بل هي أشبه بجبل جليدٍ يخفي تحت سطحه مخاطرَ جيوسياسيةٍ هائلة. التحالف مع مثل هذه القوى لا يهدد الاستقرار الإقليمي فحسب، بل قد يجعل الدول الحليفة نفسَها ضحيةً لمصالح متقلبة. فمن يتعامل مع النار يجب ألا ينسى أن شرارتها قد تلتهمه أولاً.

التأثير الأكثر إثارة للقلق يكمن في التأثير الدومينو الذي قد تخلقه هذه التصريحات. فإذا بدأت قوة عظمى مثل الولايات المتحدة في تبني خطابٍ توسعيٍ صريح، فمن المرجح أن تتبعها دولٌ أخرى، خاصة تلك التي تعاني من مشاكلَ اقتصاديةٍ أو اجتماعيةٍ وتحتاج إلى تحويل الانتباه الداخلي نحو عدوٍ خارجي. قد نرى دولاً تُعيد النظر في حدودها التاريخية، أو تبدأ في المطالبة بأراضٍ تعتبرها جزءاً من “ميراثها الحضاري”، أو تتدخل عسكرياً في جوارها بحججٍ أمنيةٍ واهية. هذا السيناريو لن يؤدي فقط إلى حروبٍ إقليميةٍ جديدة، بل سيُعيد العالم إلى حقبةٍ من الفوضى التوسعية التي سبقت الحربين العالميتين، حيث كانت التحالفات السرية والسباقات التسلحية هي العاملَ الحاسم في العلاقات الدولية.

في مواجهة هذا الخطر، يبرز سؤالٌ محوري: كيف يمكن للدول والمجتمع الدولي أن يتعاملوا مع هذه التحديات دون الوقوع في فخّ التصعيد؟ الجواب لا يكمن في الانكفاء أو الاستسلام للخطاب التشاؤمي، بل في تعزيز أدوات الدبلوماسية الوقائية وتكريس التعددية القطبية. فالعالم اليوم ليس ملكاً لقوةٍ واحدة، والقدرة على موازنة النفوذ توجد في تحالفاتٍ مرنةٍ تقوم على المصالح المشتركة، لا على الخضوع لرؤية دولةٍ واحدة. كما أن دور المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، يجب أن يعاد تفعيله بعيداً عن الاستقطابات السياسية، ليكون منصةً للحوار وليس ساحةً لتصفية الحسابات.

لكن الحل الأعمق يتطلب إدراكاً جماعياً بأن العولمة ليست مجردَ تبادلٍ تجاري أو ثقافي، بل هي مسؤوليةٌ مشتركةٌ تجاه إنسانيةٍ واحدة. الخطابات التوسعية والاستئثار بالموارد لن تؤدي إلا إلى مزيدٍ من الكوارث الإنسانية والبيئية. التحدي الحقيقي يتمثل في بناء نظامٍ دوليٍ جديدٍ يعترف بالاختلافات، لكنه يرتكز على مبادئَ أخلاقيةٍ تحترم حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، دون وصايةٍ من أيٍّ كان.

وعليه، فإن العالم يقف على مفترق طرقٍ تاريخي. فإما أن نتعلم من دروس الماضي ونسعى لبناء مستقبلٍ يقوم على التعاون واحترام السيادات، أو نكرر أخطاء الإمبرياليات القديمة التي حوّلت العالم إلى ساحة حربٍ دائمة. تصريحات ترامب، بكل ما تحمله من جنونٍ ظاهري، هي جرس إنذارٍ يجب أن يدفع الجميع إلى اليقظة. فالحضارة الإنسانية ليست ملكاً لأجيالنا الحالية فقط، بل هي أمانةٌ بين أيدينا لأجيالٍ قادمةٍ تستحق أن ترى نور السلام بدلاً من ظلال الحرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!