القيم المجتمعية في منعطف خطير..قراءة سوسيولوجية في ظاهرة الحقد والحسد بالمغرب المعاصر

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز

يشهد المغرب المعاصر تحولات اجتماعية وثقافية عميقة تستدعي الوقوف عندها بالدراسة والتحليل، خاصة مع تنامي ظواهر سلوكية سلبية تهدد النسيج المجتمعي التقليدي المعروف بتماسكه وقيمه النبيلة. ولعل أبرز هذه الظواهر وأخطرها ما نشهده اليوم من تفشي مشاعر الحقد والحسد والكراهية بين مختلف شرائح المجتمع، في ظاهرة تتجاوز حدود المنافسة الطبيعية لتصل إلى درجة التشفي والرغبة في إيذاء الآخر وتحطيم نجاحاته.

وتتجلى هذه الظاهرة بشكل واضح في الهجمة الشرسة التي تعرض لها الفنان سعيد الناصري مؤخراً عقب النجاح الباهر لفيلمه “نايضة” على منصة يوتيوب، حيث تجاوزت نسبة المشاهدات 19 مليوناً، وهو رقم يفوق ما تحققه كبريات المؤسسات الإعلامية والصحفية في المغرب. هذا النجاح الاستثنائي، بدلاً من أن يكون مصدر فخر واعتزاز، أصبح هدفاً لسهام النقد اللاذع والهجوم غير المبرر من قبل بعض الأصوات التي لا تستسيغ نجاح الآخرين.

إن المتتبع لمسار التحولات الاجتماعية في المغرب يلحظ أن هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمات عديدة وتحولات عميقة في البنية المجتمعية المغربية. فالانتقال السريع من مجتمع تقليدي محافظ إلى مجتمع حداثي مفتوح، دون توفر الآليات المناسبة لاستيعاب هذا التحول، خلق فجوة قيمية عميقة. هذه الفجوة تتجلى في تراجع منظومة القيم التقليدية القائمة على التضامن والتكافل والفرح لفرح الآخر، لصالح قيم فردانية مادية تغذي مشاعر الحقد والحسد.

ولعل ما زاد من تفاقم هذه الظاهرة هو الدور السلبي الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في تأجيج مشاعر الحقد والكراهية. فهذه المنصات، رغم إيجابياتها العديدة، أصبحت فضاءً خصباً لنشر الشائعات وتشويه السمعة والتشفي في فشل الآخرين. كما أن ثقافة المقارنة المستمرة التي تغذيها هذه المنصات تعمق الشعور بالنقص والإحباط لدى الكثيرين، مما يدفعهم إلى تحويل هذه المشاعر السلبية إلى حقد وكراهية تجاه الناجحين.

ويمثل نموذج فيلم “نايضة” حالة دراسية مثيرة للاهتمام في هذا السياق. فالعمل الذي قدمه سعيد الناصري لم يخرج عن المألوف ولم يتجاوز الخطوط الحمراء المجتمعية، بل قدم معالجة فنية كوميدية للواقع المعيشي للمواطن المغربي البسيط. ومع ذلك، فإن نجاحه الكبير أثار حفيظة البعض وجعلهم يشنون عليه حملة شعواء تفتقر إلى أبسط قواعد النقد الموضوعي والمهني.

هذه الظاهرة تطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل المجتمع المغربي وقدرته على الحفاظ على تماسكه في ظل هذه التحولات. فالحقد والحسد ليسا مجرد مشاعر سلبية عابرة، بل هما مؤشران خطيران على خلل عميق في النسيج المجتمعي. هذا الخلل يتجلى في عدة مظاهر، منها تراجع دور المؤسسات التقليدية في ضبط السلوك الاجتماعي، وضعف منظومة التربية والتنشئة الاجتماعية، وغياب النماذج الإيجابية التي يمكن أن تلهم الشباب وتوجههم نحو المنافسة الشريفة والبناءة.

ولعل من أخطر تداعيات هذه الظاهرة أنها تؤدي إلى إحباط المبدعين والمبادرين وتدفعهم إلى العزوف عن تقديم أعمال جديدة خوفاً من الهجوم والتشويه. كما أنها تساهم في تعميق الشرخ الاجتماعي وتقويض الثقة بين أفراد المجتمع، مما يهدد التماسك المجتمعي على المدى البعيد.

في ظل هذا الوضع، يصبح من الضروري العمل على مواجهة هذه الظاهرة من خلال استراتيجية شاملة متعددة الأبعاد. تبدأ هذه الاستراتيجية من المؤسسات التربوية التي ينبغي أن تعزز قيم التسامح والتعاون والفرح لنجاح الآخر. كما يجب إعادة النظر في دور وسائل الإعلام والمنصات الرقمية، بحيث تصبح أدوات لنشر الوعي وتعزيز القيم الإيجابية بدلاً من كونها منصات للتشهير والتجريح.

كما أن المجتمع المدني مدعو للعب دور أكبر في مواجهة هذه الظاهرة من خلال تنظيم حملات توعية وبرامج تدريبية تستهدف تعزيز الثقة بالنفس وتنمية مهارات التفكير النقدي البناء. وينبغي أيضاً إحياء المبادرات المجتمعية التي تعزز التضامن والتكافل وتقوي الروابط الاجتماعية بين مختلف شرائح المجتمع.

إن مستقبل المجتمع المغربي مرهون بقدرته على تجاوز هذه المرحلة الحرجة والعودة إلى قيمه الأصيلة المبنية على التسامح والتعاون والفرح لنجاح الآخر. وهذا يتطلب تضافر جهود جميع مكونات المجتمع، من مؤسسات رسمية ومجتمع مدني وأفراد، للعمل على بناء مجتمع متماسك قادر على مواجهة تحديات المستقبل بروح إيجابية بناءة.

إن نجاح أعمال مثل “نايضة” يثبت أن هناك دائماً مساحة للإبداع والنجاح رغم كل التحديات، وأن المجتمع المغربي لا يزال قادراً على إنتاج نماذج إيجابية تستحق الدعم والتشجيع بدلاً من الهجوم والتشويه. والأمل معقود على الأجيال الجديدة التي يمكنها أن تقود التغيير نحو مجتمع أكثر تسامحاً وإيجابية، مجتمع يفرح لنجاح أبنائه ويدعمهم بدلاً من أن يحاربهم ويحبط عزائمهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!