التوازن الاستراتيجي الجديد: قراءة في مشهد المواجهة اللبنانية الإسرائيلية وتداعياتها

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز

في خضم التحولات الدراماتيكية التي تشهدها المنطقة، يبرز مشهد المواجهة الأخيرة على الجبهة اللبنانية كنموذج فريد في معادلات الصراع الإقليمي. فما شهدناه لم يكن مجرد مواجهة عسكرية تقليدية، بل كان تجسيداً لتحول عميق في موازين القوى واستراتيجيات المواجهة.

لقد أظهر حزب الله قدرة استثنائية على إدارة المعركة بحكمة استراتيجية، متجاوزاً المفهوم التقليدي للنصر العسكري المباشر. فرغم الضربات القاسية التي تلقاها، والتي كان يمكن أن تقصم ظهر جيوش نظامية بأكملها، نجح في الحفاظ على تماسكه العسكري والتنظيمي. الأهم من ذلك، استطاع تحقيق أهداف استراتيجية مهمة، أبرزها تحييد قوة عسكرية إسرائيلية كبيرة عن جبهة غزة، وإبقاء التهديد مستمراً للعمق الإسرائيلي.

في المقابل، واجهت إسرائيل معضلة حقيقية في تحقيق أهدافها المعلنة. فلا هي استطاعت تحييد قدرات حزب الله العسكرية، ولا نجحت في فرض معادلات جديدة على الحدود الشمالية. بل إن الأزمة كشفت عن هشاشة غير مسبوقة في النموذج الأمني الإسرائيلي، خاصة مع عدم قدرتها على إعادة سكان شمال فلسطين المحتلة إلى منازلهم.

الأهم من ذلك كله، أن هذه المواجهة كشفت عن تحول جذري في المشهد الدولي. فلأول مرة منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي، نرى تصدعات حقيقية في جدار الحصانة الدولية التي تمتعت بها إسرائيل. قرارات المحكمة الجنائية الدولية، والموقف الشعبي العالمي المتصاعد ضد الممارسات الإسرائيلية، تشير إلى تحول تاريخي في النظرة العالمية للصراع.

إن قرار حزب الله بقبول وقف إطلاق النار يعكس فهماً عميقاً للمعطيات الإقليمية والدولية المعقدة. فالسياسة الواقعية تقتضي أحياناً قبول حلول مرحلية لتجنب خسائر استراتيجية أكبر. وهذا لا يعني تراجعاً عن المبادئ، بل إعادة تموضع تكتيكي يحفظ القدرة على المناورة المستقبلية.

التاريخ يقدم لنا دروساً مهمة في هذا السياق. فتحرر الهند عبر المقاومة السلمية، والجزائر من خلال الكفاح المسلح، وجنوب أفريقيا عبر المقاطعة الدولية، كلها نماذج تؤكد أن التغيير الاستراتيجي يمكن أن يأتي عبر مسارات متعددة. وما نشهده اليوم من تحولات في المشهد الدولي والإقليمي قد يكون مقدمة لتغييرات أعمق في المستقبل.

الموقف الراهن يفرض علينا أن نفكر بعمق في المرحلة القادمة. فالمقاومة ليست مجرد عمل عسكري، بل هي منظومة متكاملة من العمل السياسي والدبلوماسي والشعبي. والنجاح الحقيقي يكمن في القدرة على المزج بين هذه الأدوات بما يخدم الأهداف الاستراتيجية الكبرى.

يمكن القول في النهاية إن المشهد الحالي يمثل نقطة تحول في مسار الصراع. فإسرائيل التي طالما اعتمدت على تفوقها العسكري المطلق، تجد نفسها اليوم أمام معادلات جديدة تتجاوز القوة العسكرية المباشرة. والمقاومة التي أثبتت قدرتها على الصمود والمناورة، تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع، قد تكون فيها الأدوات السياسية والقانونية والشعبية لا تقل أهمية عن العمل العسكري المباشر.​​​​​​​​​​​​​​​​

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!