حرب غزة والصراع الداخلي في إسرائيل..قراءة في المشهد المركب

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز

يشهد العالم اليوم مأساة إنسانية غير مسبوقة في قطاع غزة، حيث تواصل إسرائيل عدوانها بضراوة تثير تساؤلات عميقة حول الدوافع الحقيقية لهذا الإصرار على التصعيد. وفي خضم محاولات فهم هذا المشهد المعقد، تبرز نظرية تستحق التوقف عندها بعمق: فكرة أن استمرار الحرب مرتبط بشكل وثيق بمحاولة تأجيل انفجار داخلي في المجتمع الإسرائيلي نفسه.

لفهم هذه النظرية، علينا أن نغوص في أعماق المجتمع الإسرائيلي، هذا المجتمع الذي يعيش حالة من التناقض والتشرذم منذ نشأته. فمنذ تأسيس الكيان الإسرائيلي، كانت البذور الأولى للصراع موجودة في صلب تكوينه – صراع بين رؤيتين متناقضتين للدولة: الأولى علمانية تسعى لبناء دولة “حديثة” على النمط الغربي، والثانية دينية متشددة ترى في إسرائيل تجسيداً لحلم توراتي يجب أن يخضع بالكامل للشريعة اليهودية.

هذا الصراع الأساسي تعمق مع مرور الوقت وتعقد بإضافة طبقات جديدة من التناقضات. فالمجتمع الإسرائيلي ليس مجرد انقسام بسيط بين متدينين وعلمانيين، بل هو فسيفساء معقدة من الجماعات المتصارعة: الحريديم المتشددون دينياً، العلمانيون الملحدون، الصهيونيون الدينيون، اليهود الشرقيون (السفارديم) الذين يشعرون بالتهميش، واليهود الغربيون (الأشكناز) الذين يهيمنون تقليدياً على مراكز القوة، والمهاجرون الجدد من مختلف الخلفيات الثقافية الذين يحاولون إيجاد موطئ قدم لهم في هذا المجتمع المتشظي.

وقد تجلت هذه الانقسامات بشكل دراماتيكي في السنوات الأخيرة، حيث شهدت إسرائيل خمس جولات انتخابية في غضون أربع سنوات – ظاهرة تعكس عمق الأزمة السياسية والمجتمعية. في كل مرة، كانت محاولات تشكيل حكومة مستقرة تصطدم بجدار الانقسامات العميقة، وكأن المجتمع الإسرائيلي أصبح غير قادر على التوافق حتى على الحد الأدنى من القواسم المشتركة.

وجاءت حكومة نتنياهو الأخيرة، المدعومة من التيارات الدينية المتطرفة، لتضيف وقوداً جديداً للنار. فمحاولاتها لإجراء تعديلات قضائية جذرية أشعلت احتجاجات غير مسبوقة في الشارع الإسرائيلي. للمرة الأولى، بدا أن المجتمع الإسرائيلي على شفا حرب أهلية حقيقية. آلاف المتظاهرين في الشوارع، انقسام في المؤسسة العسكرية، رفض جنود الاحتياط للخدمة، وتصاعد حدة الخطاب السياسي إلى مستويات غير مسبوقة.

ثم جاء السابع من أكتوبر وعملية طوفان الأقصى لتقلب المشهد رأساً على عقب. للوهلة الأولى، بدا أن الصدمة نجحت في توحيد المجتمع الإسرائيلي. تجمدت الاحتجاجات، تراجعت الانقسامات إلى الخلفية، والتف الجميع ظاهرياً حول القيادة السياسية والعسكرية. لكن هذه الوحدة كانت سطحية وهشة.

في الواقع، عمقت الحرب الانقسامات الكامنة في المجتمع الإسرائيلي. فتحت السطح، تصاعدت الانتقادات للقيادة السياسية والعسكرية. برزت خلافات حادة حول إدارة الحرب وأهدافها. ظهرت تساؤلات صعبة حول مصير المستوطنين في غلاف غزة. وبدأت أصوات تتعالى تطالب بمحاسبة المسؤولين عن “الفشل الاستخباراتي والعسكري” الذي سمح بحدوث السابع من أكتوبر.

وهنا تكمن المفارقة المأساوية: كلما طالت الحرب، كلما تعمقت الأزمات الداخلية التي تحاول القيادة الإسرائيلية الهروب منها. فاستمرار القتال يستنزف الاقتصاد الإسرائيلي، يعمق العزلة الدولية لإسرائيل، ويزيد من حدة التساؤلات حول جدوى النموذج الأمني والسياسي القائم.

ما نشهده اليوم هو أشبه بدائرة مفرغة: القيادة الإسرائيلية تواصل الحرب في محاولة لتأجيل المواجهة مع التناقضات الداخلية، لكن استمرار الحرب نفسه يعمق هذه التناقضات ويجعل المواجهة القادمة أكثر حدة وخطورة.

“لعنة العقد السابع” التي يتحدث عنها المحللون ليست مجرد تنبؤ عابر. إنها تعبير عن أزمة عميقة تضرب في صميم المشروع الصهيوني نفسه. فالتناقضات التي نراها اليوم ليست عارضة أو سطحية، بل هي متجذرة في البنية الأساسية للمجتمع الإسرائيلي وفي الأسس الأيديولوجية التي قام عليها.

ومع اقتراب الحرب من نهايتها المحتومة، يبدو المشهد القادم أكثر قتامة. فالصراعات التي تم كبتها مؤقتاً ستنفجر بقوة أكبر. الحساب الذي تم تأجيله سيحين موعد سداده. والأسئلة الصعبة التي تم تجنبها ستفرض نفسها بإلحاح: ما هو مستقبل المشروع الصهيوني؟ هل يمكن التوفيق بين الطموحات المتناقضة لمكونات المجتمع الإسرائيلي؟ هل يمكن الحفاظ على تماسك دولة تقوم على التناقض والإقصاء؟

الإجابة على هذه الأسئلة ستتشكل في الأشهر والسنوات القادمة. لكن المؤكد أن المجتمع الإسرائيلي يقف اليوم على مفترق طرق تاريخي. نهاية الحرب على غزة لن تكون نهاية للصراع، بل بداية لمرحلة جديدة قد تكون أكثر خطورة على مستقبل المشروع الصهيوني من كل ما سبقها.

وربما تكون هذه هي المفارقة الكبرى: أن الحرب التي شُنت بذريعة حماية أمن إسرائيل ووحدتها، قد تكون في النهاية المسمار الأخير في نعش وحدتها وتماسكها الداخلي. فالمجتمع الإسرائيلي، الذي طالما تباهى بقوته وتماسكه، يبدو اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى مواجهة حقيقة تفككه وانقساماته العميقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!